العالم: أخَوِيّة للاستعمال الجيد لليأس

العالم: أخَوِيّة للاستعمال الجيد لليأس

28 ديسمبر 2015
+ الخط -
تحول العالم إلى ما يشبه أَخَويةً للاستعمال الجيد لليأس، وهي تسهر بالقرب من جسد الأرض المنهك. فهكذا بدا قادة العالم في قمة المناخ، وهم حائرون أمام اتساع الثقب الزائغ في السماء، في طبقة الأوزون المجيدة، وهكذا أيضاً بدوا وهم يتحلقون حول نار الحضارة الباردة في مؤتمر العشرين الكبار، ويتحدثون عن حرائق الإرهاب، كما لو أنها تهدد بعصر صقيعي جديد.
أفضل استعمال لليأس من قادة الغرب تمثَّل وهم يحاولون أن يجدوا سبباً للتقلبات الحرارية غير المفهومة للأرض، بعد أن ظلوا يحفرون في بواطنها كلها، في الشمال المتجمد، وفي الجنوب المفتوح على كل أنواع الرياح الساخنة، بحثاً عن مصدرٍ للطاقة تطيعه كل الحضارات. الفلاحية، ثم الصناعية ثم الرقمية.
وبدا واضحاً أنهم يائسون من المزاج الجديد للأرض، ولطبقاتها العليا، كما أنهم عادوا إلى الشعور المبهم نفسه الذي استولى على الإنسان البدائي أمام سماءٍ غير مفهومة.
ثلج في الجزيرة العربية يُحرّض النبوءات على نهاية العالم، وشتاء ربيعي في قلب نيويورك، والكيبيك. ولا أحد يرفع صلاةً، أو أسطورةً، لكي يفسر نيات السماء إزاء أبنائها البرَرة فوق الأرض.
وتعلقت القيادات الغربية بكل الكتابات السحرية الجديدة، من تصاوير كيميائيي العلوم الجديدة، إلى مخطوطات المساحين الفضائيين الذين يجوبون شعاب الأعالي، من دون أن تعيد النظر في الفارق الرهيب بين سكان الأرض: فارق بين مَنْ ينهم الأرض وينهبها ويطلب من الآخرين أن يتنازلوا عن خيراتهم المتبقية بحثاً عن خلاص جماعي، ومن لا يملكون من العالم سوى سيّئتيْه، الإرهاب والهجرة.
أما الفقر فلم يعد خِزْيا حضارياً، ولا اجتماعياً، منذ أعيدت تسميته بالهشاشة. ففي الهجرات التي تتوالى، من الجنوب القصي أو من الشرق العصي على التصنيف، بعد ظهور الخلافة والاقتتال باسم العالم القديم، لم يجد العالم إلى حد الساعة أي ثقب في الأرض، يمكن أن يفزعه بالقدر الذي تفزعه السماء وثقوبها العالية.

ويبدو اليأس نفسه من جديد، مع تشدد كبير في القوانين، وفي التقديرات الأمنية للهجرة، وتحميل الدول التي تعاني من تبعات السياسة الغربية في الشرق الأوسط وفي جنوب الصحراء، صائر الدعوات المرفوعة ضد الحشود المتدفقة على حدود العالم الغني.
وتم تكليف دول الجنوب بتدبير ما تفرزه سياسة الشمال، ولم يبق للذين يحاولون أن يجدوا للعالم منطقاً، خارج الاستعمال الجيد لليأس، إما أن يلجأوا إلى الفلسفة، بما هي تدبير سلس له، أو إلى السخرية، بما هي أناقته ذات اليأس.
هناك شعوب بكاملها تهاجر، وتترك أرضها في بطن الحديد الذي يحمله جيش الغرب القوي، أو جيش القيصر الذي يتمرّن على الاستفاقة الجديدة لروسيا، بعد مبيتٍ شتويٍ، طال منذ انهيار جدار برلين والدول التي كانت معلقة بحباله كرقى، إلى صرخة جزيرة القرم التي أعادت العالم إلى ثنائيته المنسية: غرب وشرق.
في الثلاثية التي تواجه العالم بتماسكها المفرط في الرعب: المناخ، الهجرة، والإرهاب، يتوسط الأخير العقد، باعتباره ما تُخمّنه العقول الفقيرة، المتطرفة، من أحلام لكي ترد على وجودٍ ينفلت منها. وفي الإرهاب أيضا، يئس العالم من كل سياساته التي بدأها مع الرئيس بوش الأب في بداية الألفية الحالية، مبشراً العالم بعودة روما القديمة "التي ستتخطى القرن الواحد والعشرين بقدميها الجبارين، بدون ارتباك".
ومنذ هُزِمت أميركا في عقر دارها، يعرف العالم النوم في سرير الأرض الحارق أو الغائص في زورق الأوديسة المفقود بين جنوب إيطاليا ولامبيدوزا وجنوب اليونان. في أميركا اللاتينية كما في إفريقيا، أو في قلب دول البلقان القديمة أو أوروبا التي كانت شرقية، تولد الجدران لتزيد من يأس العالم ومن حدودها الجديدة.
فسقوط جدار برلين لم يكن نهاية الجدران بين العوالم، بل كان إيذاناً بتناسلها. فهذه الجدران، في شاعرية غير مفهومة، تتناسل من تلقاء نفسها، مثل شجر الزيزفون. فهذه الأرض حدودها مبهمة بين سماءٍ تتقاطر عليها بشواظ من نار وتغيّر مزاجها، وإرهاب يخرج من الكتب، كما يخرج من فصول سياسات الدول القوية، وبين شعوب مهاجرةٍ لا تعرف أين تقيم، فوق أرض مفتوحة على كل احتمالات الكارثة.
من مفارقات العالم في نهاية السنة القديمة أن الأرض التي كانت مأهولة دوماً، بناء على صك بمِلْكِيّة جماعية، يعرض علينا قادة الدول، كما لو كانوا أوصياء نقابيين عليها (syndic) بالمعنى الذي يطلقه أصحاب عمارة مشتركة على القائم على شؤونها، من دون القدرة على تأمين سلامتها من انفجار خزان الوقود أو هجوم المنحرفين.
غير أن الأساسي في الذي يحدث، هو أن تقسيم العالم القديم لم يمت، وأصبح احتمالاً آخر، يعود بعد نوع من الإنكار العابر إلى تحديد جزء من سياسة العالم، في مصير الأرض أو مصير الشعوب أو مصير السلام.
هناك حضور للتقسيم السابق، والثنائية التي تحكمت في سياسة العالم، على الأقل، في تحديد مصير شعوب شرق المتوسط وغربه، ثنائية الشرق والغرب، عبر عودة روسيا الجديدة. ثم ينضاف إلى هذا التقسيم، الخفي والمصالحي، أن الأيديولوجيا لم تعد محدداً وحيداً في إعادة تقسيم العالم، كما في السابق، بل تم دعمها أو تعويضها بالخوف.
والعالم الذي يستبدل الخوف بالأيديولوجيا لم يتحرّر كثيراً، حتى ولو تحالف مجتمِعاً ضد.. عدو في السماء، يُسمى ثقب الأوزون.




دلالات

768EA96E-E08E-4A79-B950-D8980EE5911C
عبد الحميد اجماهيري

كاتب وشاعر وصحفي مغربي، مدير تحرير صحيفة الاتحاد المغربية، مواليد 1963، عمل في صحيفتين بالفرنسية، من كتبه "أوفقير .. العائلة والدم.. عن انقلاب 1972"، ترجم كتابا عن معتقل تازمامارت. مسوول في فدرالية الناشرين المغاربة.