البوصلة المفقودة

البوصلة المفقودة

26 ديسمبر 2015

يتجاهل محبو القنطار قوله بقطع يد من يقاتل الأسد(Getty)

+ الخط -

"أنت متصهينة ومدّعية ثقافة هاربة، وثورتك تشبهك، متصهينة ونذلة". كانت هذه واحدة من الشتائم التي وصلت إليّ على علبة بريدي في "فيسبوك"، لأنني كتبت عن سمير القنطار أن حياته تصلح لأن تكون رواية عن آليّة تحوّل بطل إلى مرتزق. صفة الصهينة التي ألصقت بكل من لم يسمِّ القنطار شهيداً، لم يطلقها مؤيدو النظام السوري فقط، بل أطلقها أيضاً بعض ممّن كانوا، حتى وقت قريب، يخجلون من شتم الثورة وشبابها وبيئتها الحاضنة، ورأوا في الموقف من مقتل القنطار فرصة مناسبة لذلك، فهو قتل في غارة إسرائيلية استهدفت مقره في جرمانا قرب دمشق، حسب بيان حزب الله، بينما كان الإعلام السوري يبث خبر مقتله نتيجة عملية إرهابية، ولم تُدلِ إسرائيل بأي تصريح عن مسؤوليتها عن العملية، وإنْ اعتبرت مقتله عقابا إلهياً على عملية نهاريا.

يرى مطلقو الاتهامات بالصهينة والنذالة الذين تبنّوا بيان حزب الله أنه يكفي أن تقتله إسرائيل حتى يكون شهيداً، متجاهلين كل الأسئلة عمّا كان يفعله في دمشق، في جرمانا تحديداً، المدينة الصغيرة ذات الأكثرية الدرزية، ومتجاهلين ما صرّح به القنطار في بدايات 2011 عن وقوفه مع بشار الأسد، وأنه سيقطع اليد التي تمتد بالسلاح ضد بشار الأسد (لم يذكر الجيش السوري)، وأنه سيأتي إلى سورية ليدافع عن الأسد. تجاهل هؤلاء أيضاً أن تسريبات كثيرة سابقة تحدثت عن تشكيل فصيل من دروز سورية يتبع حزب الله، وأن القنطار هو من يتولّى ذلك، مثلما تجاهلوا التناقض في التصريحات حول المسؤول عن مقتله، أو تغطية تابوته بعلم حزب الله، لا بالعلم اللبناني ولا الفلسطيني، وتلوين خريطة فلسطين التي كانت خلفية خطاب حسن نصر الله في تأبين القنطار بألوان العلم الإيراني، وكأن فلسطين محافظة إيرانية، لا دولة عربية، دفع ملايين العرب أثماناً باهظة ثمن قضيتها التاريخية.

والمدهش أن معظم الشتّامين ومطلقي الاتهامات بالصهينة، وبالانحراف عن القضية الوطنية، هم من اليساريين والقوميين العرب، والذين من أهم مآخذهم على الثورة السورية أنها تطيّفت ضد وطنيتها، وتحوّلت إلى حركة رجعية ضد تنويريتها. والسؤال هنا، وبغض النظر عن نيات القنطار وما كان يفعله في سورية: هل تشكيل فصيل درزي، لأي هدف كان، يندرج في إطار حركة التحرر الوطني التنويري؟ هل صبغ خريطة فلسطين بألوان العلم الإيراني هدف تحرّري وطني وتنويري؟ طبعاً من دون التطرّق إلى السؤال القديم عن مقاومة حزب الله الشيعية التي حلّت محل المقاومة الوطنية اللبنانية والفلسطينية التقدمية واليسارية، بعد تصفية قياداتها ومنظريها من حزب الله نفسه، والأنظمة الداعمة له تلك الفترة. أسئلة عديدة يتجاهلها هؤلاء تماماً، وهم ممعنون في شتم الثورة السورية وبيئاتها الحاضنة. هذه البيئات التي دمرت مدنها وتشرّد أهلوها، وتعرضوا لكل أنواع الموت والذل والقهر، عدا عن مئات آلاف الضحايا الذين قتلهم الأسد وحلفاؤه التقدميون التنويريون، وعشرات الآلاف من المغيّبين في السجون والمعتقلات، أو الذين قتلوا تحت التعذيب بطريقة مذهلة، لفرط تقدميتها وتنويريتها!

وبين كل أولئك، ثمة فلسطينيون تعرّضوا لكل ما تعرّض له السوريون الثائرون، أليس هؤلاء من يتبنى القنطار قضيتهم كما يفترض؟ في الوجه الآخر للقضية، ثمة مفارقة مذهلة أيضاً، بعض ممّن يعتبرون القنطار قاتلاً لا مناضلاً، لأنه هشّم رأس طفلة بريئة في عملية نهاريا، يتجاهلون كل الوقائع المرافقة لهذا الحدث، ويرون أن الطفلة وعائلتها مدنيون، لا ذنب لهم بما تفعله حكومة العدو، هؤلاء أنفسهم يهلّلون لمقتل أطفال ومدنيي البيئات المؤيّدة للنظام، بذريعة أن عليهم أن يذوقوا ما ذاقه غيرهم! لماذا إذاً لا يصح هذا على العائلة الإسرائيلية التي قتلها القنطار، وقد ذاق الفلسطينيون من الموت والذل على يد الصهاينة ما لا يخطر في البال؟ هل كل ما سبق يجعلنا نعترف أننا فقدنا البوصلة جميعاً؟ ليست بوصلة قضية التحرر الوطني، كما يحلو لكثر القول، بل بوصلة الموقف الإنساني الأخلاقي الذي يفرض علينا أن نضع أنفسنا مكان الآخر، ونتقمّص حالته النفسية، قبل أن نلقي عليه شتائمنا المعيبة، ونمعن في إلقاء تنظيراتنا الفارغة على مسامعه.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.