الانقسامات الاجتماعية والسياسية وعملية السلام في ليبيا

الانقسامات الاجتماعية والسياسية وعملية السلام في ليبيا

09 نوفمبر 2015

قوة ل"فجر ليبيا" في اشتباك قبلي قرب طرابلس (ديسمبر/2014/الأناضول)

+ الخط -
قوبل مقترح الأمم المتحدة للسلام في ليبيا بمواقف أغلبها سلبي، ما يثير الجدل بشأن الخلفيات المؤثرة على الوصول إلى تسوية سياسية سلمية. وهنا، يبدو مدخل الانقسامات السياسية والاجتماعية عوامل تساعد في الاقتراب من جذور الأزمة، خصوصاً أن مؤسسات "ثورة فبراير" لم تستطع التصدي للتناقضات السياسية، ما يشكل تحدياً لمرحلة انتقالية أخرى.
ولعل المسألة الأساسية، هنا، تتعلق بمدى انعكاس ميراث الفترات الانتقالية السابقة على فرص تحقيق السلام، فهذه المسألة سوف تظل عاملاً مهماً في الاستقرار في ليبيا، وهي لا تتعلق فقط بنتائج حوار الأمم المتحدة. ولكن، في قدرة الأطراف الليبية على وضع السياسات اللازمة للانتقال من الصراع للسلم.
وتواجه ليبيا معضلة مؤسسية، لا تقتصر على انقساماتها الداخلية، وإنما في قدرة السياسة في ليبيا على تحديد دور المؤسسات في الفترة الانتقالية. وهنا نكون أمام بديلين، التعامل معها على قدم المساواة وصولاً إلى دمجها في مؤسسة سيادية واحدة، أو إلغاؤها والتفكير في بدء مرحلة جديدة، وفق إطار دستوري يتخلص من المعوقات التي شهدتها الفترات الانتقالية السابقة. فقد لازم الحوار الوطني اعتراض مجلس النواب على التعديلات التي يطرحها "المؤتمر الوطني"، وهناك خلافات جوهرية عديدة، في مقدمتها الخلاف حول المناصب العسكرية والتدخل الدولي. وكان من اللافت، أنه على الرغم من تباين موقفي "المؤتمر الوطني" والنواب من أداء بعثة الأمم المتحدة برئاسة برناردينو ليون، ولأسباب مختلفة، رفضا التوقيع على "الاتفاق السياسي"، على خلفية مطالبة "المؤتمر" بإدراج تعديلات على الاتفاق وملاحقه، يراها مجلس النواب تخل بالصيغة الأساسية، وقد ترتب على هذا الخلاف انسحاب وفدي المؤتمر والمجلس من الاجتماعات، استناداً لعدم اتساق المضي في الحوار مع تصعيد الاعتداء على المدنيين في بنغازي. تبدو الدلالة المهمة، هنا، في تشكك الأطراف الليبية في وجود قوة ملزمة لتنفيذ الاتفاق، يعززها تأكيد "الجيش الليبي" أنه غير ملتزم بنتائج الحوار.

وكشفت البيانات، منذ 10 أكتوبر/تشرين أول 2015، عن التباين والانقسام بين المؤسستين، وهي توضح جانبين. الأول، حيث تزايد الجدل بشأن عدم الاعتراف المتبادل، وترجع هذه المسألة، في جانب منها، إلى النزاع حول مدى توافر الشروط الدستورية للاستمرار سلطة تشريعية، وعلى الرغم من انتهاء ولاية "مجلس النواب" في 20 أكتوبر/تشرين أول 2015، لم تحدث تغيرات جوهرية في الصراع، وظلت الخلافات قائمة بين السلطات. الثاني، أنه بينما اتهم "النواب" "المؤتمر" بدعم مجموعات من "الإرهابيين" ومنظمة القاعدة، فقد وجه "المؤتمر" انتقادات للمجلس، وصفته بـ"المنعدم" كما اعتبر كلمة عقيلة صالح في الأمم المتحدة واحدة من صور اللامسؤولية وتفتقر للحكمة، وتدعم استمرار الحرب الأهلية.
ولا تعكس هذه الخلافات تدهور الثقة، لكنها تكشف حدة الصراع السياسي بين مدرستين في السياسة الليبية، فمجلس النواب يعد أكثر ارتباطاً بالاتجاهات الفيدرالية والقبلية، ويتبنى العودة إلى نظام سياسي، يقوم على المؤسسة العسكرية، في حين يرتبط "المؤتمر" بكيانات إسلامية وتنظيمات عسكرية وتحالفات ثورية، ويسعى إلى بناء نظام سياسي، يقوم على الدستورية والمدنية.
لا يختلف وضع "الهيئة التأسيسية" كثيراً، فهي تواجه مشكلتين؛ الخلاف حول وضعها الدستوري وانتهاء أجلها في سبتمبر/أيلول 2015، واختلال تمثيل "المكونات الثقافية"، فانسحاب مكوني "الطوارق" و"التبو‏"، بسبب استبعادهم من لجان داخلية، وغياب "الأمازيغ"، هي ظواهر تحمل، في طياتها، إشكالية دستورية أخرى، حيث يشترط الإعلان الدستوري وقانون الانتخابات تمثيل المكونات الثقافية في دوائر خاصة بها، ما يضع "الهيئة" أمام عيب قانوني، يزيد من الخلاف حول مشروع الدستور.
اتخذت الانقسامات أشكالاً، منها انقسام ما تبقى من جيش القذافي بين عمليتي "فجر ليبيا" و"الكرامة" والولاءات القبلية، ما يشكل معضلة أمام الوصول إلى السلام، ليس فقط بسبب الخلاف على إدماج كتائب الثوار. ولكن، بسبب إعادة هيكلة المناصب العسكرية، وتشكيل القيادة العامة، فهذه المسألة ما زالت تشكل تحدياً لإجراءات بناء الثقة، خصوصاً مع توجه تحالف القوى الوطنية إلى بناء الجيش، وفق الهيكل القيادي القائم (بيان رقم 16/2015)، وتباعد جانب من العسكريين في المنطقة الشرقية مع مسار الحوار السياسي.
وخلال شهر سبتمبر/أيلول 2015، ظهرت اتجاهات لثوار المنطقة الشرقية لإعادة ترتيب صفوفهم، ومكافحة مسلحي "الدولة الإسلامية" و"مليشيات حفتر"، باعتبار أنهم يشكلون تهديداً للثورة.
وتشير بيانات الحركات المنضوية تحت مظلة ثوار فبراير إلى الاهتمام بمكافحة التطرف و"الغلو"، سواء كانت مصادره اتجاهات إسلامية أو علمانية. ولذلك، تصدت لوجود مسلحين لتنظيم الدولة (داعش)، في سرت" ودرنة وإجدابيا، واعتبرت أن الإجراءات التي اتخذتها تتسق مع توجهات الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب في ليبيا، وهي معالجة تختلف عن توجه مجلس "النواب" لطلب التدخل الدولي ورفع حظر السلاح.
وقد ركز "المجلس الأعلى لثوار ليبيا" على توافر ضمانات الالتزام بأي اتفاق سياسي، وحدد رؤيته في ثلاثة عناصر: أهمية إعادة بناء المؤسسات العسكرية والأمنية، واستبعاد خليفة حفتر ومحاسبته، وأخيراً تبنى رؤية لمكافحة الإرهاب والتطرف.

صراعات الجنوب الليبي
يشكل الجنوب الليبي المنطقة الرخوة في السياسة الليبية، بسبب هشاشة البنية السياسية، وتعدد التركيبة الإثنية. وفي مرحلة ما بعد الثورة، شهد تحولات في الصراعات الجهوية بين "الطوارق" و"التبو" سارت في اتجاهين. الأول، حيث التنافس على الاستحواذ على موارد الجنوب الليبي، ما ترتب عليه من اندلاع معارك كثيرة، انصبت أساساً حول تثبيت نفوذ المكونات الإثنية. وهنا، يحرص "التبو‏" على الاستفادة من وجود تسعة نواب لهم في مجلس النواب، تعبيراً عن ثقلهم السياسي، والاستفادة من الظروف الراهنة لتمديد الحزام الاجتماعي للتبو نحو الشمال الليبي، على حساب تهجير القبائل العربية، فيما يسعى الطوارق (المجلس الاجتماعي لقبائل الطوارق في ليبيا) لتعزيز تحالفاتهم مع القبائل العربية وقوات درع ليبيا (القوة الثالثة).
تعطي هذه الخريطة الصراع الإثني في الجنوب الليبي أبعاداً انقسامية بين جماعات سكانية عديدة، صارت تتماس وتتقاطع مع الأزمة السياسية في البلاد، لتشمل كيانات اجتماعية أخرى، مثل "أولاد سليمان" و"الجديد" و"القذاذفة"، وهي كيانات تتبنى مواقف متباينة تجاه ثورة فبراير.
يرتبط الاتجاه الثاني بسعي جماعة "التبو‏" إلى الارتباط بتحالفات سياسية مع الأطراف السياسية في شمال البلاد، فقد شاركوا في "لواء القعقاع" ثم مع مسلحي "جيش القبائل" في معارك السيطرة على مطار طرابلس والمنطقة الغربية، وهي معارك بدأت في يوليو/تموز 2014، ما يشكل انحيازاً لصف عملية "الكرامة" ومهد الطريق لاعتبارهم لاحقاً من مكونات "الجيش الليبي" التي استعان بها حفتر في معارك بنغازي، بديلاً عن حلفائه من القبائل الشرقية.
وبينما يجري الصراع في الجنوب الغربي بين جماعات سكانية تنتمي، بدرجة أو بأخرى، للمجتمع الليبي، فإن الصراع في الجنوب الشرقي يشهد تدخلات خارجية، حيث يتساند "التبو‏" و"حركة تحرير السودان" لأجل السيطرة على الموارد النفطية في منطقة الكفرة. ويمكن ربط هذه التحركات بقرار حل القوات الليبية السودانية المشتركة الموجودة على الحدود، قبل أشهر، ما ساهم في سهولة نقل المسلحين إلى داخل الأراضي الليبية، وتمكينهم من الهجوم على الكفرة في سبتمبر/أيلول 2015.

وبشكل عام، تشير التطورات الخاصة بالجنوب الليبي إلى ملامح عديدة مرتبطة بالانقسامات السياسية. في مقدمتها الترتيبات الواسعة لجماعة "التبو‏" في الوصول إلى قلب السياسة الليبية والتأثير على السلطة المركزية. وهنا، تأتي أهمية تحالفاتهم السياسية مع جماعة الزنتان وخليفة حفتر، ويمكن قراءتها محاولة للانتشار في كيان الدولة وتجاوز النطاق الإقليمي. ولعل الوجه الآخر لمشكلات الجنوب يتمثل في تزايد سيولة السيادة الليبية، وظهور احتمالات قوية بتغيير التركيبة الديموغرافية، ما تترتب عليه إعادة تعريف المجتمع الليبي. وتعد هذه المسألة من التحديات التي تواجه صياغة الدستور، وخصوصاً ما يرتبط منها بالحقوق الإثنية والجماعات السكانية التي يتغير وزنها السياسي مع استمرار الأزمة.

القبيلة ودورها السياسي
لم ينقطع ظهور القبائل في السياسة الليبية بعد ثورة فبراير، لكنه تزايد مع تعثر الفترة الانتقالية، وظهرت حالة من الصراع بين القبيلة والأحزاب حول الدور السياسي، وقد شكل انعقاد مؤتمر القبائل في مدينة الزنتان في 6 يوليو/تموز 2013 المرحلة الأساسية لطرح القبيلة فاعلاً سياسياً وبديلاً عن الأحزاب السياسية. وقد ركز معارضو "المؤتمر الوطني" على تعزيز دور القبيلة. وفي هذا السياق، انعقدت مؤتمرات في ورشفانة، غرب ليبيا (مايو/أيار 2014)، وفي القاهرة (مايو/أيار 2015)، وفي الجنوب الليبي (سبتمبر/أيلول 2015) ومصراتة ( أكتوبر/تشرين أول 2015).
لعل السمة المشتركة بين هذه المؤتمرات تتمثل في المطالبة بإلغاء النتائج التي ترتبت على انتخابات يوليو/تموز 2012 (المؤتمر الوطني)، وخصوصاً الكيانات العسكرية والأمنية، فقد ركز بيان "ورشفانة" على ضرورة تجاوز مرحلة المؤتمر الوطني، على الرغم من أن التعديلات الدستورية (مارس/آذار 2014) رتبت مرحلة ما بعد المؤتمر، غير أنه يمكن فهم البيان في إطار الانقسام السياسي السائد في تلك الفترة، وانحياز القبائل المجتمعة للخيارات السياسية ضد "غرفة ثوار ليبيا"، والكتائب العسكرية التي تشكلت بعد الثورة. ولذلك، لم تتجاوز مصالحة "ورشفانة" في 2015 دور الهدنة القصيرة.
وركز مؤتمر للقبائل الليبية في القاهرة على دعم مصر مجلس النواب ورفع حظر السلاح، لكنه لم يمنع ظهور مواقف مختلفة، كشفت أن "المؤتمر" لا يعبر عن كل القبائل الليبية، بسبب عدم توجيه دعوات إلى القبائل الفاعلة في الجنوب والغرب والوسط وتهميش عدد من مشايخ القبائل.
وكان التطور اللافت، في المؤتمرات القبلية، ماثلاً في الانتقال من شعارات الحراك الوطني "لا للتمديد"، لطرح ثورة الفاتح حلاً للخروج من الأزمة، وهو الاتجاه العام للنقاش في مؤتمر القبائل والمدن الليبية (الجنوب) في 14 سبتمبر/أيلول 2015، واعتبر أن ثورة فبراير مؤامرة دولية، شارك فيها الإسلاميون، وخلص إلى أن استعادة الاستقرار تتطلب بناء الجيش بدون "المليشيات المتطرفة" ومحاكمة المشاركين في "فبراير"، ودمج القبائل في العمل المسلح تحت مظلة "الجيش الليبي"، وهي فكرة تم تطبيقها في بنغازي تحت مسمى "الصحوات"، لكنها لم تضفِ على "الجيش" قدرة في حسم المعارك في المنطقة الشرقية أو الغربية، وتظل نقطة محورية في تعميق الانقسام والثأر الاجتماعي. وقد تلاقى مؤتمر قبائل الجنوب مع خطاب "الحركة الوطنية الشعبية الليبية" على تطابق مواقفها مع اجتماع القبائل، وكان أكثر تحديداً في تعريف الخصوم السياسيين، وحددهم في الحركات الإسلامية.
وفي اتجاه مناظر، انعقد ملتقى الوفاق الوطني في مصراتة (15 أكتوبر/تشرين أول 2015)، بحيث يعمل على تكوين ظهير اجتماعي للاتفاق السياسي، فمن جهة عمل على حشد الكيانات القبلية. ومن جهة أخرى، تضمن البيان الختامي سياسات ركزت على تفعيل العدالة الانتقالية وحرمة الدماء ووقف الحرب الإعلامية، وهو اتجاه يمكن أن يستوعب جزءاً من التوترات والخلافات حول التسوية السلمية والحوار الوطني، غير أن من الملاحظ أن مجالس قبلية عديدة تعبر عن كيانات جهوية، أو جماعات سكانية، يتنبى كل منها رؤية مختلفة؛ فهناك المجالس العليا لجماعات الأمازيغ (التبو‏) والطوارق، بالإضافة إلى مجالس القبائل والمجالس البلدية، وتمثل هذه التكوينات الأشكال التقليدية للعمل السياسي، لكنها لم تتصدّ لمعضلات بناء الدولة، واقتصر دورها على عقد مصالحات اجتماعية، على الرغم من مطالبتها بإعادة توزيع السلطة والثروة.

وبشكل عام، تكشف مؤتمرات القبائل عن معضلة الانتقال السياسي، فهي تثير الجدل على جانبين؛ مدى توافر فرص التوافق حول الدور السياسي لثلاثة مكونات، القبيلة، الأحزاب، والمؤسسات العامة، ففي الفترات الانتقالية السابقة، شكل التنافر بين هذه المكونات عاملاً أساسياً لظهور صراعاتٍ أدت إلى تعطيل المؤسسات المنتخبة وأجهزة الدولة، وتعزّزت التناقضات بمضي الوقت، بسبب بروز فكرة الثأر في الخطاب السياسي، وتعميق الصراع الاجتماعي.

مستقبل السلام
لعل التغيرات الحالية تفيد بأن مستقبل ليبيا يدور بين ثنائية تطوير ثورة فبراير أو الدخول في صراعات ممتدة. ولعل النتيجة الرئيسية للفترات الانتقالية تتعلق بحدوث تحولات في الصراع المسلح بين القبائل والحركات الثورية، بدأت بانقسام الثوار وانتهت باندلاع معارك مفتوحة في غرب البلاد، ولم يتمكن مؤتمر "العزيزية" من وقف التسارع نحو الصراعات المسلحة، وبشكل عام، يرجع تعدد الكيانات المسلحة لتطرف فكرة إعادة بناء الجيش على أنقاض ثوار فبراير، بالإضافة إلى عدم اعتداد قبائل كثيرة بالحوار السياسي.
ولدى البحث في مسار التسوية السياسية، يتضح أن المسألة المركزية تكمن في بلورة ترتيبات لنقل السلطة لحكومة انتقالية، وهي مسألة تتعلق بكيفية التعامل مع المعضلة التي راكمها ميراث النزاع حول السلطة التشريعية والحكومة. وساهم انحياز الأمم المتحدة إلى اعتبار "النواب" السلطة الشرعية الوحيدة في نقل عمق الأزمة الليبية للحوار السياسي. وهنا، يمكن القول إن تشكيل الحكومة التوافقية على أساس مناطقي أو جهوي سوف يعمل على إثارة التوتر والنزاعات. ولذلك، من الأهمية العمل على تصميم فترة انتقالية قصيرة تمهد لنظام سياسي يحترم دور القبيلة، ويعزز المؤسسية.

5DF040BC-1DB4-4A19-BAE0-BB5A6E4C1C83
خيري عمر

استاذ العلوم السياسية في جامعة صقريا، حصل على الدكتوراة والماجستير في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، وعمل باحثاً في عدة مراكز بحثية. ونشر مقالات وبحوثاً عديدة عن السياسية في أفريقيا ومصر والشرق الأوسط .