الخيار الوطني لسورية

الخيار الوطني لسورية

05 نوفمبر 2015

حشود من أهالي حماة يهتفون بسقوط النظام (29 يوليو/2011/أ.ف.ب)

+ الخط -
تتعالى أصوات سياسية وشعبية سورية كثيرة، معارضة وموالية، مؤكدة ضرورة العودة إلى الوطنية السورية. وهناك أسباب مختلف لعلوها هذا، لكن الإجماع عليها يوضح أن ضرورتها كبيرة. فالوطنية هذه الغائب الأكبر في السنوات الخمس الماضية خصوصاً.
سورية الآن محكومة لصالح حلف النظام وحلف المعارضة، فالنظام يقول إنّه غير قادرٍ على الاستمرار، والمعارضة تستجدي، ومنذ أربع سنوات، من تعتقدهم أحلافها وأصدقاءها الدعم والتدخل. هذه الأحلاف، وبمرور السنوات، ساهمت في قتل قرابة نصف مليون سوري، ودمار أقسام كبيرة من المدن والبلدات والقرى السورية، وفي تهجير أغلبية الشعب، وفي عداوات يَعتقد كثيرون أنه دون تجاوزها عقبات كبرى. هذه خلفية أي تحليل جادٍ للوضع السوري، وبعيداً عن سياسات الدول الخارجية المستفيدة وملحقاتها السورية، أي النظام والمعارضة، فإن سوريين كثراً، وبعكس ما ذكرناه أعلاه عن العقبات، فإنهم يرون أنّ الأفق بات مغلقاً، وهناك ضرورة لوجود رؤىً جديدةً تؤسس لوطنية جديدة وجامعة، لا تراعي الأطراف السورية المذكورة، وتتجاوزها نحو إعادة الاعتبار للسوريين أولاً، وبما يحدث قطيعة مع المشاريع الطائفية والعشائرية والقومية، ورفض تسييس هذه المشاريع ثانياً، ورفض كل أشكال التدخل الخارجي ثالثاً.
ما أوصل الوضع السوري إلى هذا الحال هي سياسات النظام بالدرجة الأولى، وسياسات المعارضة بالدرجة الثانية. افتقد الاثنان السياسات الوطنية، والتبعية للأطراف الخارجية الداعمة لهما. لم تتغير هذه المسلمة حتى هذه اللحظة، وكأن كل ما تراكم لم يوضح سياسات الدول في دعم هذين الطرفين، فتلك السياسات محكومة بمصالح الدول، والأخيرة لم تتوافق مصالحها منذ خمس سنوات. وفي حال توافقت أخيراً، وهو ما يلحظ بسبب احتمالات فشل العدوان الروسي، وربما الأدق الكلام عن الاحتلال الروسي، فإن الحصيلة لن تكون إلا تقاسماً للنفوذ، وقيام نظام يراعي مصالح تلك الدول، ويرفض كل ميل نحو الوطنية السورية.

هذه الحقيقة تبدو أنها أصبحت وعياً لدى أغلبية الشعب، ويبادر الجميع إلى السؤال: هل منْ حلٍ لا ينهي الوطنية السورية، وينهي الوضع السوري المفتوح؟ طبعاً لا يمكن لعاقل أن يتكلم عن وصفة سحرية تنهي الماقبل وتبدأ بالمابعد، فالوضع استنقع كليةً، وما لم يحصل توافقٌ سياسيٌّ لن ندخل بمرحلة الترميم والعودة إلى السورنة، ولو وفقاً لما ترتأيه تلك الأطراف.
هناك وثيقتان لهما معنى، يمكن الاستفادة منهما سورياً ودولياً. الأول بيان جنيف، والذي يفكك النظام والمعارضة، ويسمح بعملية انتقالية لصالح كل السوريين، وهناك وثائق مؤتمر القاهرة في يوليو/تموز 2012، والتي تتضمن توافقاً بين الأغلبية الساحقة من قوى المعارضة، ولا تتجاهل وجود النظام، لكنها تفككه. لنفترض أن النظام رفض ذلك كله، يقع على المعارضة أن تعود إلى تلك الوثيقة وتكرار الاستناد إلى ذلك البيان، ودعوة كل السوريين إلى الانخراط في هذا المناخ، أو العمل بما يتلاقى معهما.
لا يهم هنا الأطراف التي أصدرت تلك الوثائق، دولية كانت أم سورية، المهم أنها تسمح بإنهاء المقتلة المستمرة، المقتلة التي تكاد لا تبقي حجراً على حجر، ولا بشراً مع بشر. ولكن نجاح ذلك، أو ما يقترب منه، يتطلب قطعاً إنهاء كل صلة بالإسلام السياسي، فقد لعب دوراً كارثياً في التطييف، في محاولته السيطرة على المعارضة والثورة السورية، وكذلك القطيعة الكلية مع الجهاديات بتفريعاتها، والتي كانت أسوأ ما حصلنا عليه منذ أكثر من خمسين عاماً، ولا سيما بسبب السياسات الخاطئة للنظام وللمعارضة في سنوات الثورة السورية.
لينجح انبعاث وطنية جديدة، لا يكفي ما ذكرته بخصوص الجماعات الطائفية، بل لا بد من إبعاد الدين عن حقل السياسة، فتسييس الدين يشوهه، ويشوه السياسة في آن واحد، فحينها لا خيار للشعب خارج هذا الإطار الضابط، ألم يحن الوقت لنتعلم من المثالين اللبناني والعراقي وسواهما؟
يتعارض الخيار الوطني مع تسييس الدين والطوائف، فالوطنية لا تستوي وتعريف الفرد بطائفته أو بدينه، وترفض تحليل الحدث السوري انطلاقاً من الدين. وإذ لا نُخفي أنّ الدين من عوامل التوافق مع النظام أو المعارضة، فإنّه ليس العامل الرئيسي لتفسير سياسات النظام والمعارضة، والأهم أنه ليس سبباً للثورة، فالتسييس المبالغ فيه للطوائف والكلام عن الأكثرية والأقليات جاء لإيقاف الثورة من جهة النظام، وللسيطرة عليها من جهة الإسلاميين والداعمين لهم.
تتأسس الوطنية الجديدة على رؤية عقلانية للوضع السوري، تُنهي كل علاقة تبعية بالأطراف الخارجية، الآن أو لاحقاً، وتُحمّل كل الأطراف الفاعلة مسؤولية تدحرج سورية إلى هذه اللحظة، وبشكل رئيسي، المسؤولين الأساسيين في النظام والمعارضة، ومحاسبتهم على دورهم في الدمار والقتل والتعذيب والتبعية. ما لا يمكن القبول بوجوده في سورية المستقبلية نهائياً هي الجماعات الجهادية التي أعلنت دولة الخلافة، أو تتضمن رؤاها دولة الخلافة، أو أية رؤية طائفية للسوريين ومن كل الطوائف، ويمكن قبالة ذلك أن يصبح الدين مرجعية ثقافية للحركات السياسية التي تنطلق من الدين، ومن دون أن يتعارض ذلك مع المواطنة وحقوق الإنسان.
الخيار الإنقاذي للسوريين هو الخيار الوطني، والذي رفضته المعارضة بغباءٍ نادر، واحتكره النظام بكذبٍ نادر، وتوسل الاثنان الخيار الطائفي والتبعية الخارجية والعسكرة، والتي أصبحت تهدد سورية بالكامل. تهددها بالتحكم الإقليمي الدولي الواسع، وبالتقسيم كذلك، وبتسييس النزاعات ما قبل الوطنية، وبالجهادية تارة رابعة، وبالإفناء والتدمير.
يقول العقل والمصلحة إنّ على السوريين، وقبل أن ينفرط عقدهم بالكامل المبادرة إلى سياسات ورؤى وتحالفات وطنية، بما ينقلهم إلى دولة للجميع، ورفد الحالة الوطنية الجديدة.