الإعلام اليمني: الحرب الخلاقة

الإعلام اليمني: الحرب الخلاقة

28 نوفمبر 2015
+ الخط -
نجحت الأنظمة العربية في تجريف إمكانية نهوض إعلام وطني نزيه، معبر عن هموم الشعوب وتطلعاتها، وحتى بعد ثورات الربيع العربي، لم يتعافَ الإعلام العربي من هذه المحنة، لا زال مصاباً بالأمراض المزمنة نفسها، ويعمل بدأب على إعادة تصديرها إلى المتلقي العربي، والاختلاف البسيط الذي يمكن ملاحظته هو في أن الإعلام العربي أصبح موجهاً ضد المجتمع، ولم تعد وظيفته تقتصر على خدمة الحاكم العربي وحسب.
في ما مضى، كانت ممارسة الأنظمة العربية رقابة مشددة على الإعلام، وتكريسه لخدمة مصالحها السياسية، تأتي مع احتكارها الوطنية واختزالها في صوتها الواحد، وجرّاء ذلك، تتعرض بقية الأصوات للقمع. لا تزال الأنظمة العربية تفرض وصاية على الإعلام، وتكرّسه لخدمتها، لكن ديكتاتوريتها لا تقوم على صوتها الواحد، وإنما على تحالفاتها مع قوى سياسية داخلية وخارجية متصارعة، جارّةً معها الإعلام الوطني إلى تبني خطاب "الحلفاء" التفتيتي، طائفياً كان أو سياسياً، فجميعها يشكل خطاباً سياسياً موجهاً ضد فئة من الشعب. لم تعد الأنظمة العربية، اليوم، تحفل بالهوية الوطنية لشعوبها، ليس كما تحفل بتشييد مطارات فخمة لتحسين صورتها أمام الأجانب، فالمطارات العربية ليست كالإعلام، فهي ليست طائفية، ولا مؤذية وطنياً، بل أقرب إلى الكونية، ومنفتحة سياسياً ودينياً واقتصادياً. وفي جولةٍ واحدةٍ في أحد المطارات العربية، يمكن رؤية مستوىً لا بأس به من التسامح الإنساني، ليس فقط في بضائع السوق الحرة، وإنما في التنوع الإثني والديني للعاملين، لكن جولة على القنوات والمواقع الإلكترونية العربية، الرسمية وحتى الخاصة، لا يُسمع ويقرأ سوى خطاب داعشي، بتنويعات طائفية وجهوية متعددة، ويتدفق منها، بسلاسةٍ مغيضةٍ، طفحٌ طائفي، لا تحجبه أبهة المطارات، ولا عظمة الأسواق الحرة.
بشكل مباشر ومؤثر، يسهم الإعلام العربي، اليوم، في إنتاج خطاب طائفي، يزداد تشدداً وعنفاً كل يوم، وفي إعادة منتجة هذا الخطاب في قوالب وطنية خادعة، كما نجح، وبجدارة، في نقل الصراعات الطائفية والجهوية من "تشنج سياسي" على مستوى النخب السياسية إلى ممارسات عصبوية على المستوى الشعبي. يتركز التنافس الإعلامي العربي، اليوم، في التنافس على خدمة ولاءات ضيقة وغلبتها؛ فبمنطق التشدد نفسه، يقدم المتنافسون الإعلاميون أنفسهم مالكين حصريين للحقيقة، بالتوازي مع خطابٍ يشيطن كل معارضة للتشدد السياسي الذي يروجه، وبقدر ما يبدو ذلك فجاً ومحبطاً للصوت السياسي الوطني المهمش والمستضعف، إلا أنه لا غرابة في الخطاب الأحادي والمتشنج الذي يتبناه الإعلام اليوم، إذ صار مملوكاً، أو مُسيطراً عليه، من نخب سياسية عاجزة عن مغادرة مربع مشاريعها الصغيرة، وانتماءاتها الأيديولوجية والسياسية، نخب لم تنجح سوى في إصابة الإعلام العربي بأمراضها الوطنية العضال، ثم في استثمار "إعلامها"، لتحويل المشروع والوحدة الوطنيين إلى حالات مستعصية.
كغيره من البلدان العربية التي، على ما يبدو، لم يعد يجمعها سوى عاهات سياسييها وقلة حيلة مجتمعاتها، لا يشذ الواقع المتردي للإعلام اليمني عن "السوء" الإعلامي العربي؛ حيث كان أحد الركائز الداعمة لنظام علي عبدالله صالح، وكرّس ثلاثة عقود صورة الزعيم الفرد، صاحب الإنجازات والهبات. بقيام ثورة 2011، شهد الإعلام اليمني طفرةً، من حيث كثرة القنوات الفضائية، غير أن هذا القنوات لم تحقق نقلةً في صعيد عملها المهني، أو الرقي بخطابها، وظلت تدور في الدائرة المغلقة المقتصرة على حشد الأنصار السياسيين، والنيل من الأطراف السياسية الأخرى، ضداً على كل ما هو مشترك وطني. كان الخطاب الإعلامي اليمني، ولا يزال، خطاباً مُسيساً ومُؤدلجاً بامتياز، لكن البعد الطائفي لخطابه لم يتبلور كما هو عليه اليوم إلا بعد سيطرة جماعة الحوثي وعلي عبدالله صالح على مؤسسات الدولة في سبتمبر/أيلول العام الماضي. ومع بداية الاقتتال الأهلي وانطلاق العمليات العسكرية لقوات التحالف العربي، بقيادة السعودية، تعاظم الخطاب الطائفي للإعلام اليمني، بشقيه الذي يسيطر عليهما، ويديرهما طرفا الصراع في اليمن.
الدور البديهي للإعلام هو صياغة خطاب وطني جامع، يوجه أطياف المجتمع نحو القواسم
الوطنية، بما يعزّز من مبادئ السلم المجتمعي والتعايش والسلام، أو على الأقل البعد عن تحفيز الانقسامات الطائفية والمناطقية والعصبوية، لكن الإعلام في اليمن، اليوم، لم يعد فقط (إعلاماً من دون رسالة أخلاقية، ولا موجه وطني)، بل صار يتولى التدشين لمقدمات الاحتراب والصراع الأهلي منقاداً، مع شعبوية متقلبة المزاج وكثيرة التذمر. إذا كانت الحرب في اليمن قد قسمت المجتمع اليمني أفقياً، تبعاً للاصطفافات السياسية الهرمية، فإنها كرّست انحياز الإعلام اليمني للانقسام داخل إدعاءات وطنية، والحرب تحت مبرّرات السلام، ليصبح منصات إعلامية لأطراف الصراع اليمني، فإعلام اصطفّ، لأسباب سياسية ومذهبية، مع الحوثيين وصالح، وإعلام اصطفّ، للأسباب نفسها، مع السلطة الشرعية، ممثلة بالرئيس عبد ربه منصور هادي، وكلاهما يتنازعان حربهما الخاصة، جنباً إلى جنب مع المسلحين. يتوجه كلاهما إلى جمهور قطيعي، يختلط فيه الجناة بالضحايا، وكلاهما يستهدف شحن جمهوره بالمزيد والجديد من المزاعم الأخلاقية والسياسية والمذهبية للتشرذم والقتل. وأياً تكن مزاعم إعلام طرفي الصراع، صار الإعلام اليمني في مقدمة المحاربين، ومن منظور "الانتصار على العدو"، لا يعد ممكناً التمييز بين إعلام يمني وآخر، إلا في مقدار تفنن هذا الإعلام، أو ذاك، في توليف خطاب يلبي أهدافه، أو في طريقة تكريس أسباب الحرب.
ليس العدو الذي تخلقه قناة المسيرة، التابعة لجماعة الحوثي، داعش أو تنظيم القاعدة، بل هو اليمني الذي يرفض سلطة الجماعة، ويقاوم سياستها، وهي تتعاطى مع هذا العدو بحرفيةٍ عالية، فبعد إلصاق تهمة "التكفيريين" و"الإرهابيين" في هذه الفئات، تنزع إنسانيته، باعتباره "عدواً" يترصد بهم وبالوطن. هكذا يكون المضمر في الخطاب الإعلامي "عدواً" سياسياً طائفياً، ويتوجه، في مقابل ذلك، إلى تعبئة "الأنصار" ضد هذا العدو. وهكذا، يجري حشر كل من "الأعداء" و"الأنصار" داخل حلقة صراع مذهبي وجهوي مفرغة. وبموازة إعلام الحوثيين، فإن الخطاب الإعلامي التابع لعلي عبدالله صالح، مثل قناة اليمن اليوم، خطاب سياسي يتبنى موقف صالح ومصالحه السياسية، ويدافع عنها، والعدو في إعلامه كل يمني يرفض عودته إلى السلطة.
في المقابل، لدينا "الإعلام الموالي للشرعية"، وعلى الرغم من أنه لا يشكل وحدة منسجمة، وتتعدد موجهات خطابه وأبعاده بين السياسي والطائفي والمناطقي، تكرّس بعض قنواته خطاباً طائفياً، يكون فيه الحوثيون وصالح أعداء لكونهم "زيوداً"، يريدون نزع السلطة من رئيس "شافعي"، أو "شماليين وقبائل" يسعون إلى فرض سيطرتهم على الجنوب، وعلى المجتمعات المدنية.

دُشنت الحرب اليمنية لأسباب واضحة ومباشرة، هي ضعف السياسيين اليمنيين وخفتهم، ولجوء أطراف يمنية إلى السلاح والقوة لفرض سيطرتها، لكن الأسباب غير المرئية التي أوجدت ظروف الحرب، باعتبارها ضرورة حتمية للانتصار على الآخر، والانفراد بالسلطة، بدأت قبل ذلك بكثير، ربما قبل سنوات؛ فحتى قبل إدراك اليمنيين نشوب حرب عليهم، جرى التحضير للحرب، طوال هذه الفترة، من قنوات إعلام يمني، خفيف ومبتذل وغير وطني ولا مسؤول، يكرّس، منذ سنوات، لانحياز سياسي وطائفي ومناطقي، عصبوي بني مجده على إذكاء الطائفية والكراهية بين أطياف المجتمع، ونجح في ذلك، إعلام لم تخلقه الحرب، كما يحدث في بلدان كثيرة، بل سعى إلى الحرب، ولا يزال يعمل بحماسة أكبر على استدامتها.


97D578E8-10ED-4220-B7E6-97386BBC5882
بشرى المقطري

كاتبة وناشطة يمنية