حين يقاطع المصريون برلمان الثورة المضادة

حين يقاطع المصريون برلمان الثورة المضادة

28 نوفمبر 2015
+ الخط -
انتهت الانتخابات المصرية التي أجريت على مرحلتين، لتنتج برلماناً مشوهاً يمثل الثورة المضادة بامتياز. ليست النتيجة مفاجئة، فكل ترتيبات ما سمي العرس الديمقراطي أجريت تحت وقع القهر والإلزام وفرض قواعد لعبة تحدّدها السلطة، فلا نقاش ولا قبول، فالسلطة لا تسمح بمتنافسين معها، كانت الانتخابات صراعاً شكلياً، أو قل كما يشبهها المصريون، في جلساتهم وتعليقاتهم، اشتباكات بينها فواصل ردح بلدي، إنها أشبه باشتباكات بلطجية في حي شعبي. لم تشهد مصر انتخابات حقيقية، لأن السلطة كانت تنافس نفسها، والحدث أشبه بتقاسم غنائم بين لصوصٍ جمعتهم الجريمة، ثم اختلفوا على نصيب كل منهم.
لا برامج طرحت على ناخبين، ولا دعاية حقيقة وجدت، ولا رموزا سياسية وقادة من تيار التغيير نزلت الساحة. مشهد كهذا لا يستدعي اهتمام المصوّتين، منزوعة المصداقية والمعني والجدوي هي انتخاباتهم، لذا أعرض الناس حتى عن المشاهدة والترقب والاهتمام، فالمباراة مناورة سخيفة ومكشوفة، وليس هناك من تابع نتائجها المعروفة مسبقاً.
كان التنافس بين رجال الحزب الوطني ورموزه، حزب المخلوع حسني مبارك، تقاذفتهم أمواج الثورة، فتفتت حزبهم وتم حله، وبعد الشتات، سنحت لهم معادلات القوة في المجال العام التجمع مرة أخرى، شكلوا أحزاباً، وأطلقوا صحفاً أقرب إلى كونها أفرعاً لشركاتهم، وامتداداً لسلطتهم التي اتخذوها من وجودهم الطويل في مواقع السلطة التي حكمت مصر 30 عاماً. تجمع أحزابهم وتحالفاتهم الانتخابية كبار رجال الأعمال ورجال سلطة مبارك، من وزراء وسفراء ومحافظين وقضاة وعُمد ومشايخ، إنها تشكيلة برلمان ما قبل الثورة نفسها، ولكن بغياب الماسترو الذي يوحّد إيقاعها، لذا ظهرت أصوات نشاز داخلها، ليس لأنهم مختلفون، ولكن، هناك تنافس على من يعلو صوته الآن، ومن يسبق دور من، في الغناء والتغني بالنظام وحماية مصالح مجموعات المصالح، وكسب أكبر مساحة في المشهد الاقتصادي والسياسي القائم.
يدرك من يتابع تجربة المصريين مع الانتخابات بعد الثورة أننا أمام حالة مقاطعة جديدة على مجتمع المشاركة الكثيفة بعد الثورة. العملية الانتخابية التي دارت، أخيراً، كانت أشبه بانتخابات مجلس الشعب في الثمانينيات والتسعينيات، فاللجان خاوية، ونسب المشاركة ضعيفة، والبرامج منعدمة، والمرشحون متشابهون في الانتماء وأشياء أخرى. المقاطعة واقعية ومتجسدة، لا يمكن إنكارها، حتى بيانات "اللجنة العليا للانتخابات" تشير إلى تواضع نسب المشاركة، وترجعها، قياساً بما سبقها من انتخابات، وقد أعلنت اللجنة أن نسبة التصويت في المرحلة الأولى تجاوزت 20%، وتفيد مؤشرات بعض دوائر الإعادة بأن النسبة لم تتجاوز 2%. لم تختلف المشاهد، ولا النتائج، كثيراً في المرحلة الثانية، وأياً ما كانت النسب المعلنة، فإن مشهد المقاطعة خيم على الانتخابات، وقد شغلت المقاطعة الجميع، وامتدت مساحتها ما بين التفسير والتبرير والإنكار، وكانت أغلب التحليلات تتجنب الخوض في علاقة أزمة السلطة بالمقاطعة، فلم تطرح مسألة تأثير السياسات الاقتصادية المفقرة والسياسة القمعية للنظام على موقف الشعب من المشاركة.
شكل المشهد حالة اعتراضية شعبية، وكان أبرز أسبابها شعور قطاعات واسعة من الجمهور
بعدم الجدوى، فتراجعت، بالتالي، نسب المشاركة. كان هذا الشعور جماعياً، ولم يكن خلفه حشد أو دعاية سياسية منظمة تدعو له، فحتى من لم يشاركوا من قوى سياسية تدّعي الثورية أصدر تجمع منهم بياناً "ضد الدعاوى المغرضة للمقاطعة"، والغريب أن هؤلاء أشادوا بالشعب المصري، لموقفه المقاطع، واعتبروا أن خياره دليل ثورية، وليس فعلاً مغرضاً، ويمكن القول إن الضمير الجمعي والإحساس العام بعدم الجدوى وسيادة الإحباط من ممارسات السلطة، هو ما شكل المقاطعة. ذلك أن الشعب، بعد ثورة يناير، أدرك أنه قادر على الفعل، وأن لصوته وزناً وقيمة، لكن فقدان الثورة عنفوانها، وعدم قدرتها على تحقيق أهدافها، واعتلاء الثورة المضادة السلطة، جعل قطاعات واسعة تفقد الأمل في التغيير عبر الصناديق.
ليس النظام الانتخابي، ولا طبيعة القوائم فحسب، سبب المقاطعة، كما تظن معظم النخب السياسية، لكن مجمل ممارسات النظام هي التي أحدثت المقاطعة، وهي، أيضاً، أحد تجليات الإحباط العام الذي يسود المجتمع. صحيح أن قانون الانتخابات، وما ترتب عليه من تحالفات سياسية، من الأسباب، غير أن من يكتوون من الممارسات الاقتصادية والممارسات القمعية اختاروا، أيضاً، هجر انتخابات النظام. ويمكن القول إن العوامل الثلاثة متشابكة ومترابطة، ومن أبرز أسباب المقاطعة، كما أن مصدرهم أيضا واحد، وهو الحكم وأجهزة السلطة بمكونها الاجتماعي الطبقي، المستغل من جانب، والقمعي السلطوي الاستبدادي من جانب آخر، تتجلى أيضاً ظاهرة المقاطعة جزءاً من إهمال قطاعات واسعة من الشعب وانسحابها من المجال العام، وهو انسحاب تبدّى في سائر الانتخابات التي أجريت، أخيراً، ومنها انتخابات النقابات والاتحادات الطلابية.
هناك جوانب أخرى في المشهد تدفع إلى المقاطعة، ميل النظام إلى الهيمنة سياسياً واقتصادياً غيب قوى سياسية كثيرة، وجعلها تحجم عن المشاركة. لم تتمكن، مثلاً، قائمة "صحوة مصر" من المشاركة، لأن نظام الحكم لا يريد من يختلف معه حتى في التفاصيل، فما بالك بقائمة تضم رموزاً إصلاحية، ساهمت في الحراك الشعبي ضد مبارك.
وبغياب هذه الكتلة وكتلة "الإخوان المسلمين"، صعدت كتل أصحاب النفوذ من رجال الأعمال، وهذه، على تنوعها، مدعومة من السلطة وأجهزة الدولة، وما دار بينها من خلافاتٍ، سببه اختلافات أجنحة الحكم، كما ساد إحساس لدى القوى السياسية، والمجتمع عموماً، أن السلطة غير جادة في إجراء الانتخابات، خصوصاً مع تصاعد الدعاوي المطالبة بتأجيلها أو إلغائها. أعطت هذه الدعاوى إحساساً بأن السلطة ليست جادة في إجراء الانتخابات، وأن عبد الفتاح السيسي لا يريد أن ينتقص البرلمان من سلطاته، حتى لو جاء أغلب من فيه مؤيداً لسلطته. ليس عاملاً واحداً أحدث مقاطعة "الانتخابات" في مصر، كما لا يمكن التقليل من آثارها، فالأفعال التي تأتي نتاج ضمير جمعي تحمل أفقاً للتغيير الشعبي.

D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".