تونس.. الإرهاب ضد الثورة والديمقراطية

تونس.. الإرهاب ضد الثورة والديمقراطية

28 نوفمبر 2015
+ الخط -
بخلاف دول عربية أخرى، تختلط فيها مهمة مكافحة الإرهاب الأصولي بمكافحة الاستبداد والطغيان الرسمي، فإن تونس هي حقاً البلد العربي شبه الوحيد الذي تحتل فيه مهمة مناهضة الإرهاب مكانةً مركزيةً وأولويةً شبه مطلقة، فقد مضى هذا البلد الذي كان لشعبه فضل إطلاق شرارة الربيع العربي على طريق ديمقراطي متعرّج، استغرق عبوره فترة قصيرة تقل عن أربع سنوات، وانتهى الأمر إلى استقرار مؤسسات الدولة، وإلى وضوح مرجعيتها الدستورية، وإلى الفصل بين السلطات، وإلى وقوف المؤسسة العسكرية بالذات إلى جانب الشعب، ونهوضها بحماية الدولة ومرافقها.
لذلك، بدا الحادث الإجرامي الذي تعرضت له تونس، في قلب العاصمة، الثلاثاء الماضي 24 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، فعلاً إرهابياً صرفاً، يستهدف الدولة، مرموزاً إليها بالأمن الرئاسي، كما بدا مثيراً للدهشة أن يتمكن الجناة من الوصول إلى هدفهم هذا، فكيف لمن يخفق في حماية نفسه أن ينهض بحماية الرئاسة ومؤسستها وحماية الشخصية الاعتبارية الأولى في البلاد؟
وبعيداً عن هذا المأخذ الذي ستتكفل الجهات المختصة بوضع إجابات له، والأهم، وضع حلول لهذا التحدي، فقد برهن الاستهداف المتواصل لممثلي السلطة الأمنية والعسكرية من جنود ورجال شرطة على أن غرض الإرهابيين بث الرعب والفوضى، وشل يد القوة التنفيذية للأمن، وصولاً إلى إحداث فراغ أمني، يملأه المخططون والمنفذون لهذه العمليات الإجرامية.
وبينما قال الشعب كلمته، واختار ممثليه في البرلمان وفي الحكومة والمجالس المحلية، وكذلك اختار رئيساً للدولة، فإن الإرهاب الأصولي الذي لا ينفك عن مزاولة أنشطته الجرمية، يثبت، المرّة تلو المرة، أنه لا يحترم إرادة الشعب، بل يكيد لها، ويقف لها بالمرصاد، وعلى الضدّ منها، بما يفنّد مزاعمه عن تمثيل غيره، أو النطق باسم شريحة اجتماعية.
ومن الطبيعي، في غضون ذلك، أن يلقى الحادث الإجرامي، أخيراً، بما يستبطنه من نزعة انقلابية دموية، موجة استنكار عارمة، وحّدت التونسيين مجدداً، على اختلاف أهوائهم
ومشاربهم، بعدما كانوا قد توحدوا على انتفاضة الحرية، قبل نحو خمس سنوات، كما توحدوا على سلوك نهج ديمقراطي قويم، طوال الفترة الماضية التي أمسكوا فيها بمصيرهم، ونعموا فيها ليس بديمقراطية كاملة الأوصاف، بل بواحدةٍ من أفضل الآليات الديمقراطية التي استندت إلى حق الترشيح وحرية الاقتراع المباشر، كما امتلأت بالتوافقات الوطنية الداخلية بين الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين، وبروح حوارية خلاقة، وهو ما أثار إعجاب العالم بالتجربة التونسية، وما قضى بمنح جائزة نوبل للسلام للمجموعة التي عُرفت برباعي الحوار: الاتحاد التونسي للشغل، الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، الهيئة الوطنية للمحامين التونسيين، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، وقد لعبت هذه المنظمات دوراً مشهوداً في الحوار الوطني، خلال صيف 2015، بعد موجة اغتيالاتٍ لا سابق لها، وسرعان ما انحسر خطرها، وقامت هذه المنظمات بالتجسير بين الفرقاء الحزبيين، ووضعت حلولاً توافقية، حظيت بمباركة هؤلاء الفرقاء، الأمر الذي أمكن تهدئة الخواطر وتنفيس الاحتقان، بالاحتكام مجدداً إلى انتخابات برلمانية ورئاسية.
والراجح أنه لا علم للمتطرفين الدمويين بهذه المنظمات المهنية والاجتماعية المرموقة، ولا بالحوار الوطني الواسع الذي جرى آنذاك، ولا بما تمخض عنه هذا الحوار من توافقات، ومن انطلاق عجلة الترشيح والانتخاب مجدداً، وهو ما يفسر سلوكهم الإجرامي الذي يتعاكس مع موجبات سلمية التنافس السياسي، واحترام حق الاختلاف، وتشريع هذا الاحترام، وما حملته ثورة الياسمين في خريف 2010 من نزعةٍ سلميةٍ مدنية، دفعت الجيش إلى حماية هذه الثورة المدنية، وتسييجها بالرعاية والسهر عليها، إلى أن قُيّض تغيير النظام بأقل كلفة عنفية ممكنة. وقد صدر العنف، كما هو معلوم، من أطرافٍ تتبع النظام السابق، لا من المنتفضين. وها هم المتشددون الدمويون يتنكبّون، بدورهم، طريق العنف الأعمى، وليس أي طريق آخر، ما جعل شرائح الشعب جميعها تلتقي على إدانة هذا السلوك وتجريمه، والدعوة إلى استئصال شأفته، بعد أن بات يمثل الخطر الداخلي الأول الذي يهدد سلامة العباد والبلاد، كما يهدد مكتسبات الشعب التي راكمها جيلاً بعد جيل.
إنه لمن الصحيح أن ثورة الياسمين لم تنجز بعد أهدافها العميقة في إرساء العدالة الاجتماعية، وتحقيق الاكتفاء الاقتصادي، وإنجاز الإصلاح الإداري الشامل، وتعبئة سائر الموارد البشرية والطبيعية، من أجل الوفاء بمقتضيات تنمية مستدامة، يتمتع الجميع، وخصوصاً الشرائح الضعيفة بثمراتها، وفق أسسٍ من العدالة والمساواة، غير أن هذه المطامح الواقعية المشروعة لن تجد في العنف الأسود حاملاً لها، بل، على العكس من ذلك، تهدد موجة العنف الأعمى التي لا تستثني مدنيين ورعاة في مناطق جبلية نائية بتبديد المكتسبات، وتعيد، في الوقت نفسه، ترتيب الأولويات، ما يجعل فرض حالة الطوارئ المؤقتة خياراً لا بد منه، لسد الثغرات، وتتبع الجناة والحؤول بينهم، وارتكاب جرائم جديدة بحق المدنيين، أو ممثلي الدولة ورجالها، أو زوار البلد من السياح.
ولا ريب أن تجدد موجة العنف، ووصولها إلى وسط العاصمة، وعلى مقربة من وزارات حساسة، كوزارة الداخلية، يدق ناقوس الخطر، ويدعو الأطراف الحزبية والسياسية إلى وقف تنافسها الضارّ، كما هو الحال في الصراع العلني الناشب داخل حزب الأغلبية "نداء تونس"، كما يُملي هذا الخطر الالتفات، بصورة أكثر جدية ونجاعةً، للمطالب الاجتماعية المُلحة والمشروعة التي ترفعها، في هذه الأثناء، النقابات العمالية، من أجل تحصين الجسم الوطني والاجتماعي والإداري ضد موجة الشر هذه. ومن المعلوم أن السلطات حذّرت، قبل أيام، الرئيس السابق، منصف المرزوقي، من محاولة المساس بحياته، والمأمول ألا يتوقف الأمر عند هذا التنبيه، فمن الواجب حماية هذه الشخصية الوطنية الرفيعة التي ارتقت إلى موقع رئاسة الدولة، لا الاكتفاء بتنبيهها، وكذلك التجند الرسمي والشعبي لحماية التجمعات الشعبية، وسائر الرموز الوطنية والسياسية والاجتماعية داخل الحكم وخارجه، من أجل قطع الطريق على من يهدّدون التونسيين بإشاعة الخراب والفوضى في ديارهم، وفي صفوفهم، ولحرمانهم من قطف ثمار ثورتهم، بما يتسق مع عداء المتطرفين الدمويين مظاهر الحياة والعمران ومفردات المدنية، ومع عدائهم الأصولي فكرة الدولة الحديثة، وخصوصاً سيادة القانون وعموميته.