المسؤولية الغربية عن تمدد داعش

المسؤولية الغربية عن تمدد داعش

16 نوفمبر 2015
+ الخط -
ما حصل يوم الثالث عشر من نوفمبر/تشرين أول الجاري في باريس حدثٌ ضخم وصادم، فالهجمات لم تكن مثل الهجوم على مجلة شارلي إيبدو، بل أكثر تنظيماً وإجراماً وإيلاماً. كان كبيراً بلا شك، والواضح أن الدول الغربية وإعلامها سيتوقفون عند هذا الحدث طويلاً، وربما يعملون على أسطرته، كما فعلوا مع هجوم الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 في الولايات المتحدة. لكن، من المشروع أن نفكر في احتمال تكرار إجابات "11 سبتمبر" نفسها على الأسئلة التي يطرحها الحدث، أي أن الإعلام الغربي قد ينحو مجدداً، وهذا متوقع، لإلقاء اللائمة على ثقافةٍ بعينها، وتفعيل النقاش المتمركز حول فكرة صراع الحضارات، أو الحديث عن استهداف "العالم الحر"، والدفع باتجاه الرد بمزيد من التدخلات العسكرية في المنطقة العربية، للقضاء على "الإرهاب". ربما لم تنتبه نخب سياسية وثقافية غربية كثيرة إلى أن إجاباتٍ كهذه في مرحلة ما بعد 11 سبتمبر قادت إلى ما نشهده اليوم من استمرارية للظاهرة الإجرامية، تحت عناوين الجهاد العالمي.
لا بد من القول، قبل مناقشة الإجابات الغربية، على الأسئلة التي تفرضها هذه الظاهرة، وسُبُل التعامل معها، أن جريمة باريس مدانة من دون تحفظ، وأن القتلة هم منفذو العملية، وليس أي أحد آخر، وأنهم استهدفوا الأبرياء، ولا شيء يبرر فعلتهم. بات هذا القول ضرورياً في هذه الأوقات العصيبة، لأن الخلط بين فهم ظاهرةٍ مثل تنظيم داعش وإخوته، وتبرير أفعالهم، أصبح رائجاً في بعض الكتابات والخطابات ما يجعل توضيح الفارق بين فهم أسباب نشوء الظاهرة وظروفها، والتبرير لها لمكايدة الخصوم، أمراً ضرورياً.
هناك من يُمرّر تبريراً غير مباشر لجرائم تنظيم داعش وإخوته، في المشرق العربي، ضمن عنوان "ردة الفعل" على ممارسات الخصوم، ويُقال هذا تحت مظلة فهم الظاهرة، لكن الفهم لا يعني تحويل أفعال الجهاديين إلى استجابةٍ تلقائيةٍ ميكانيكية لأفعال الآخرين، وكأن الجهاديين مُسيّرون بلا إرادة، ومبرمجون على تقديم ردة فعلٍ لا يد لهم في إيقافها، ولا مسؤولية لهم عنها، حيث تُحمَّل كل المسؤولية للطرف الآخر. هذا تحديداً ما يمكن أن نسميه تبريراً غير مباشر، ولا سيما وأنه يحصر فعل الجهاديين في ردة الفعل السياسية، ويُنَحّي دور الأيديولوجيا المتبنّاة من قِبَلِهم، والتي تُفَسِّر جزءاً من سلوكهم، انطلاقاً من رؤيتهم ذواتهم والآخرين، وقناعاتهم في مسائل مثل استهداف المدنيين المنتمين "لجماعة الخصوم"، وغيرها. الحديث هنا عن الأيديولوجيا الدينية للجهاديين، بما هي عقيدة سياسية تنعكس في الرؤية والممارسات، منطلقة من فكرٍ إلغائي وإبادي، وليس عن الثقافة التي يستخدمها بعضهم تفسيراً للظاهرة، ليطعن في مجموعات بشرية ومجتمعات بكاملها، لانتمائها الديني أو الثقافي، في إطار رؤية جوهرانية عنصرية.

في فهم الظاهرة، لا بد من المرور على عوامل عدة، ساهمت في نشوئها وتمددها، وتنظيمٌ مثل داعش يتضخم في أجواء الهياج الطائفي، والصراعات الأهلية، وتفكّك الدول، والهجمات الاستعمارية. هنا، لا بد من التذكير بالدور الغربي في تغذية الظاهرة الجهادية، منذ بدايتها في أفغانستان، حين دعمت دولٌ غربية تدفق الجهاديين، وسَمَّتهم مقاتلي الحرية، وقليلاً ما تتم الإشارة إلى أثر هذا الدعم، في النقاشات الغربية، إذ إن جهاديي اليوم هم نتاجٌ تراكمي للظاهرة التي نمت وترعرعت في أفغانستان، ولم تتوقف الدول الغربية عن ممارسة الفعل نفسه، فقد ساهمت في دعم نفير الجهاديين إلى سورية، أو غضَّت بعضها الطَّرْف عنه في أحسن الأحوال، وتكوين مركز وقاعدة لهم في العراق والشام، ينطلقون منها لتنفيذ عملياتٍ في كل مكان.
لا تقف المسألة على دعم الظاهرة الجهادية في أفغانستان، أو في سورية، بل تتجاوزه إلى صناعة مناخاتٍ لتمدّد تنظيم مثل داعش، عبر غزو العراق (باسم الحرب على الإرهاب)، وتركيب النظام الطائفي بمكوناته من الأحزاب الشيعية والسنية والكردية، فنظام المحاصصة هذا (ساهم الدعم الإيراني أيضاً في تثبيته)، أوجد بيئة خصبة لنمو المليشيات الطائفية على أنواعها، وتنظيم داعش أحدها. وحالة الهياج الطائفي، وتفكك الدولة، الذي استفاد منه تنظيم داعش، يحمل بصمة أميركية وغربية، لا تخطئها العين، فالاحتلال مسؤول عن تفكيك الدولة العراقية، وتفجير الصراع الأهلي. ولا ننسى أن القوى الاستعمارية الغربية لم توقف تدخلاتها المستمرة، وهجومها الإجرامي، على بلدان عربية عدة، بالطائرات والجيوش، و"القتل الذكي" بمقاتلات "الدرونز".
من السهل أن تلقي مجموعة من النخب الغربية اللائمة على ثقافة الآخرين، أو دينهم، وليس هناك أبسط من ترديد هذا الكلام، والزيادة عليه، من مجموعات ليبرالية عربية تعاني عقدة النقص والشعور بالذنب تجاه الغرب، وتمارس جلد الذات، لكن الشجاعة تقتضي تغييراً في مسار النقاش، يؤدي إلى مراجعة جادّة للمسؤولية الغربية عن تمدد الظاهرة الجهادية، سواءً عبر المساهمة في صناعتها، وتوظيفها ضد الخصوم من الشيوعيين والأنظمة "المارقة"، أو عبر التدخلات العسكرية التي تُفتت الدول وتُقسِّم المجتمعات، وتُهَيِّئ الأجواء لنمو التنظيمات الجهادية.
يقدم الدور الغربي إحدى الإجابات المهمة على أسئلة نشوء الجهاديين وتمددهم، ومناقشته بجدية، والعمل على تغييره، أحد أهم الوسائل لمواجهة ناجحة ضد الجهاديين، بدلاً من إعادة الإجابات نفسها، وتكرار ما يعزّز استمرار دوامة العنف.

9BB38423-91E7-4D4C-B7CA-3FB5C668E3C7
بدر الإبراهيم

كاتب سعودي. صدر له كتاب "حديث الممانعة والحرية"، و"الحراك الشيعي في السعودية .. تسييس المذهب ومذهبة السياسة".