باريس.. الإرهاب وهشاشة المدنية الحديثة

باريس.. الإرهاب وهشاشة المدنية الحديثة

14 نوفمبر 2015

ورد لأرواح ضحايا جريمة المسرح في باريس (14 نوفمبر/2015/أ.ف.ب)

+ الخط -
مرة أخرى، نصحو على عملية إرهابية في باريس. هناك من فجّر نفسه بين أبرياء، وهناك من أطلق النار على أبرياء يتناولون عشاءهم في مطعم باريسي، وآخرون دخلوا حفلة موسيقية، ليدموا من فيها، وليستبدلوا صوت الموسيقى بصوت الرصاص القاتل. باريس تحت النار، يدميها إرهابيون بقتل أسود لمواطنين، لا ذنب لهم، سوى وجودهم في مكان استهدفه الإرهاب الأسود.
في كل مرة تجري فيها عملية إرهابية تفجيرية ضد مدنيين أبرياء، يأتي السؤال: ما الذي يجعل شخصاً ما يفجر نفسه بين آخرين أبرياء ليقتلهم، أو يطلق النار عليهم، معتقداً أنه يقوم بعمل سام، أو أنه، بهذا الفعل الإجرامي، يدخل الجنة؟ لا تجد جواباً، ويبدو أن الإجابة عليه بحاجة إلى الدخول إلى عقل المجرم نفسه، لنعرف كيف يفكر؟ فأي معالجة تقليدية لهذا السؤال لا تعطي إجابة كافية ووافية عن الدوافع التي تدفع شخصاً ما إلى مثل هكذا فعل.
إذا كنت، إلى الآن، غير قادر على فهم الدوافع الفردية لمن يرتكبون هذه الأفعال، فأعتقد أن الإجابة على وظيفة الإرهاب أقل تعقيداً من آلية البحث في الدافع الفردي لكل شخص يقوم بمثل هكذا فعل.
يبدو لي أن الفكر الإرهابي يقوم على معادلة بسيطة، اكتشفها مُوظفو الإرهاب، وهو ما يعطي وزناً أكبر للإرهاب، تظهره بوصفه قوة مدمرة كبيرة، في مواجهة مدنية ضخمة وهائلة، لكنها عاجزة عن مواجهته. تقوم هذه المعادلة على أن المدنية الحديثة هشة، فأي تهديد بسيط من مجموعة إرهابية صغيرة لها، في مفاصلها الرئيسية، يؤدي إلى تعطيل هذه الآلية الضخمة والهائلة، لكنها الهشة في مواجهة افتقاد الآمان. في الأساس، تقوم المدنية الحديثة على السرعة في التنقل، والسرعة في الاتصالات، والسرعة في تبادل المعلومات، والسرعة في التبادل التجاري.. إلخ من احتياجات الحياة المعاصرة، والتي تبنى عليها حياة ضخمة ومتكاملة، ازدادت ضخامة إلى درجة رهيبة في النصف القرن المنصرمة. القاعدة الأساسية لهذه الحياة، هي الآمان، وتزدهر هذه المدنية مع الأمان، فتهديده يعطلها. يكفي أن يؤخذ تهديد بقنبلة في وسط محطة قطار في مدينة كبيرة على محمل الجد، حتى يؤدي ذلك إلى تعطيل الحركة في هذه المدينة.

المثال الأبرز على هذه المعادلة هو أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001 التي شهدتها الولايات المتحدة، فقد أظهر ذلك اليوم أن مجموعة مقيمة في كابول على بعد آلاف الكيلومترات من نيويورك، في بلد يفتقر إلى كل شيء بعد حرب طويلة، هذه المجموعة قادرة على ضرب أهم مدن العالم، وأهم مراكزه المالية والتجارية على الإطلاق، في الصميم. من فكرة في غاية البساطة، على الرغم من لا عقلانيتها، (اللاعقلانية من سمات الفكر الإرهابي أصلاً) تقوم على استخدام انتحاريين طائرات مدنية يركب فيها أبرياء، أداة لهدم مبان يعمل فيها أبرياء من كل العالم تقريباً، هذه حال مركز التجارة العالمي الذي استهدفته علميات الطائرات في نيويورك ذلك اليوم والتي تبناها تنظيم القاعدة. كان هذه المرة الأولى، على ما أعتقد، التي يتم فيها استخدام الطائرات المدنية الثقيلة بعد خطفها، بوصفها قنابل متحركة، تستخدم ضد أهداف مدنية. صحيح أن هذه الأفكار/ الوسائل، في أحيان كثيرة، تستخدم مرة واحدة فقط، أو مرات قليلة، لكنها، في الحالة التي تم استخدامها في نيويورك، قد غيرت وجه العالم، فالعالم بعد 11 سبتمبر غيره قبلها، وبات العالم كله مكشوفاً أمام عمليات إرهابية متنوعة الأساليب، بعد هذه العملية الإرهابية التي روّعت العالم، لا الولايات المتحدة فحسب، كما أطلقت هذه العملية المخيلة المريضة للمنتمين إلى القوى الإرهابية إلى أبعد مدى، وأشعرتهم بقوتهم الاستثنائية، خصوصاً بعد إعلان الولايات المتحدة، أكبر قوة في العالم، الحرب عليهم، باعتبارهم الخطر الأكبر الذي يهدد الأمن القومي الأميركي.
هذه المكانة التي حققها التنظيمات الإرهابية للمرة الأولى، بوصفها نداً للولايات المتحدة، باعتراف الأخيرة، بعد أن كانت، في ما سبق، جزءاً من توظيفات الحرب الباردة بين القطبين الرئيسيين المتصارعين في العالم. كما أن العملية وجهت كل مجانين الإرهاب باتجاه القاعدة، بوصفها قبلة "الجهاد" ضد الكفر، والتي تتغير اليوم باتجاه "داعش" بوصفه الأكثر إجرامية. وهناك تنظيمات إرهابية كثيرة صغيرة قد أعلنت انتماءها للقاعدة سابقاً، وهناك أخرى تعلن انتماءها لـتنظيم داعش اليوم، وأصبحت هذه القوى جزءاً من الظاهرة الإرهابية، من دون أن يكون لها علاقات تنظيمية فعلية مع قيادة القاعدة في تورا بورا في أفغانستان، أو قيادة "داعش" في الموصل، وبات العمل الإرهابي مناخاً أكثر منه صلات تنظيمية.
ما جرى في الولايات المتحدة، وأصاب العالم كله بالصدمة، تم تعميمه على العالم، وبدا أن المجتمعات الأكثر حداثة عرضة للشلل أكثر من غيرها، بفعل استهدافها بعمليات كهذه. خصوصاً أنهم حولوا المناطق التي سيطروا عليها إلى خراب تماما، كما الحال في أفغانستان، والمناطق التي سيطروا عليها في العراق وسورية. فعلى سبيل المثال، شل هجوم القطارات في لندن عام 2005 التي ذهب ضحيتها 50 شخصا المدينة تماماً، وتفجيرات مدريد 2004 التي راح ضحيتها 191 شخصا وجرح أكثر من 1700 شخص التي قامت بها الحركة الباسكية، فعلت الفعل نفسه.
وفي باريس، يرتكب عشرة أشخاص أو عشرون، مسلحون ببعض الأسلحة الأوتوماتيكية وبضعة كيلوغرامات من المتفجرات، مجزرة في عدة أماكن، يذهب ضحيتها أكثر من 125 قتيلا ومئات الجرحى، يروّعون المدينة ويروعوننا معها. فهشاشة المدنية الحديثة تجعل مجموعة من مجانين الإرهاب تأسر مدينة كاملة وتدميها، وتروّع العالم أجمع. إنه الإرهاب يدخل من المسامات الهشة للعالم الحديث، ويزرع الموت والخراب.

دلالات

D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.