جدل "ما بعد الرأسمالية" من ماركس إلى بول ماسون

جدل "ما بعد الرأسمالية" من ماركس إلى بول ماسون

11 نوفمبر 2015

موظفون بلغار يتظاهرون في صوفيا ضد خفض الفوائد الاجتماعية(8نوفمبر/2015/Getty)

+ الخط -
بعد الكساد الكبير (1929- 1933)، وُقّعت اتفاقية "نيو ديل"، وأعلن الرئيس الأميركي، فرانكلين روزفلت، أن أعظم إنجازاته إنقاذ الرأسمالية. لكن، منذ أزمة العام 2008 لم يجرؤ أحد على إعلان الإنقاذ. ولازالت الحلول تبشر بمزيد من سنوات التقشف. وعلى العكس، تعالت الأصوات التي تعلن نهاية الرأسمالية، وانتعشت أحلام قوى اليسار، بعد هزائم متواصلة طوال ربع قرن. فهل نشهد فعلاً سقوطا للرأسمالية، وما ملامح حقبة "ما بعد الرأسمالية"؟

إصلاح أم ثورة؟
نظرت الماركسية إلى الثورة الطبقية على أنها استمرار للصراع الطبقي. وبالتالي، استمرار لعملية التاريخ ككل: "تاريخ كل مجتمع موجود حتى الآن هو تاريخ صراع الطبقات". وفي أجواء مشحونة بالعنف، ترافقت مع ثورات الربيع الأوروبي (1848)، استعجل البيان الشيوعي حسم الصراع عبر ثورة طبقية. مُنيت البروليتاريا بهزيمة مريرة في كومونة باريس (1871)، وأخفقت سلطتها المنتصرة في 1917، على رقعة جيوسياسية ما قبل رأسمالية، في الصمود أمام المنظومة الرأسمالية العالمية، وفي تحقيق العدالة الاجتماعية المنشودة. تبعه انهيار النموذج السوفييتي (التأميم) المُعتمد في دول العالم الثالث، نتيجة هيمنة اقتصاديات السوق، فضلاً عن عوامل الفساد والاستبداد.
أكملت الرأسمالية ازدهارها، في أواخر القرن التاسع عشر، ونضجت أفكار الاشتراكية الفابية، متحرّرة من ضغط الواقع الراهن، واستفادت من الديمقراطية التقليدية في المجتمع البريطاني، فرأت إمكانية التحول من الرأسمالية إلى الاشتراكية، عبر سياق التطور التاريخي الشامل، القائم على الاستمرار، لا على القطع التاريخي. رفض الفابيون الثورة، والموقف الداعي إلى الصراع الطبقي، طالما حمل توسيع نطاق التمثيل الشعبي في طياته توسيعاً للقاعدة الاشتراكية. ومع أن نمو الاحتكارات جعل من مبدأ الحرية الذي قامت عليه الرأسمالية شكلاً من دون محتوى، فإن الرأسمالية لم تمنع الإصلاح دائماً، والمصلح الحق، حسب وليم كلارك، لا يخرّب ما عمله الرأسماليون من دون وعي منهم، بل يهيئ الشعب بالتعليم لينشئ ديمقراطية حقّة، و"يلتقط الخيوط كلما وقعت من أيدي طبقة الملاكين المتخاذلة".
منذ العام 1970، ارتفعت انتاجية العمل في الغرب أكثر من 50%، لكن نسب الأجور الحقيقية بقيت ثابتة، مع تدنّي القدرة الشرائية. وكان فائض القيمة يحتكره الأكثر ثراء، الذين أطلقت عليهم اليوم حركة احتلال الشوارع اسم "1%"، والذين كشفت إحصاءات "أوكسفام" أن 66% منهم يمتلكون ثروة تفوق مما يمتلكه 3.5 مليارات من البشر الأكثر فقراً، أي ما يعادل نصف سكان العالم. دمرت المضاربات وحيل المصرفيين النظام المالي العالمي. ولم تعد الديمقراطية في ظل الرأسمالية توفّر، كما في السابق، فرصاً للإصلاح، بل تقوض مبدأها الأصلي (الحرية) أكثر من أي يوم مضى.

الرأسمالية المعلوماتية
في 30 يوليو/ تموز الماضي، صدر كتاب بول ماسون الجديد "ما بعد الرأسمالية .. دليل إلى مستقبلنا"، سبقه بحوالي أسبوعين مقاله في صحيفة الغارديان "بدأت نهاية الرأسمالية". ينطلق ماسون من نظرية الاقتصادي السوفييتي، نيقولاي كوندارييف، حول دورات رأس المال طويلة
الأمد "long-wave"، التي تتراوح فيها كل دورة بين 50-60 عاماً، تتخللها فترات من الركود والازدهار. يحافظ ماسون على تاريخ الرأسمالية سلسلة من الدورات المتتالية. لكن، لا يكتفي بتفسير كوندارييف لكل دورة بالابتكارات التقنية وأثرها في الإنتاجية، بل يتساءل عن الشروط التي تتيح للابتكارات، أو لجيل منها، فرض حضوره في المجتمع. يضيف إلى عاملي التكنولوجيا والاقتصاد الصراع الطبقي، ويرى أن هذا الحضور ليس اعتباطياً، بل يعكس ضرورة كامنة في الرأسمالية نفسها، وهي الحاجة إلى تطوير الإنتاجية لتحقيق الربح. ومفتاح الفهم لهذه الاختراعات الثورية التي تقف خلف التحولات الرأسمالية، خلال القرنين الماضيين، هو نضال الطبقة العاملة ضد الرأسماليين الساعين إلى خفض الأجور. ففي كل مرة، تستطيع الطبقة العاملة فيها مقاومة خفض الأجور، يضطر المبدعون للبحث عن تقنيات جديدة، ونماذج الأعمال التي يمكن أن تستعيد الدينامية على أساس أجور أعلى، من خلال الابتكار وزيادة الإنتاجية، وليس الاستغلال. فمع كل صعود كبير للرأسمالية، كان هناك شكل جديد من التقنية، مصحوباً بارتفاع الرواتب وقيمة الاستهلاك. لكن، لأول مرة، ومع الليبرالية الجديدة، اعتمدت الرأسمالية في نموها على تقليل الرواتب وتدمير مرونة الطبقة العاملة والقوى الاجتماعية.
يرى ماسون أن الأزمة المالية في السبعينيات وضعت حداً لطفرة ما بعد الحرب التي كانت أعلى معدل للنمو في الرأسمالية في دورتها الرابعة، وخلافاً للدورات السابقة، لم تستطع الطبقة العاملة المقاومة، وانتصرت الليبرالية الجديدة (مارغريت ثاتشر ورونالد ريغان). ومع تفكك الاتحاد السوفييتي وإزالة جدار برلين، وَسّعت العولمة الأسواق شرقاً، مع نمو وهمي ومؤقت، من خلال تَوسّع هائل في الائتمان. وبدل الاستثمار في التكنولوجيا والإنتاج، نما اقتصاد طفيلي، يستند إلى رؤوس أموال وهمية، فقاعات، مضاربات، واستغلال لملايين العمال ذوي الأجور المتدنية في المستعمرات السابقة. توقفت الدورة الخامسة للرأسمالية التي بدأت تتشكل في قلب الدورة الرابعة المتصلبة، فجأة، ولم تؤد التحولات الراهنة إلى الصعود الكبير للرأسمالية الذي توقعته نظريات دورات رأس المال طويلة الأمد، بسبب الطبيعة الخاصة للقوة التكنولوجية الدافعة لهذه الدورة: المعلومات.

اقتصاد في درجة صفر
يضيف ماسون أن المعلومات "ماكينة" لتحطيم الأسعار، وهي تتوافر بغزارة، بينما يحافظ السوق على الندرة لتحقيق الأرباح. دافع النظام عن نفسه بالاحتكارات، بشكل لم يشهده العالم من قبل، وحدّدت الشركات الرقمية العملاقة قيمة أسهمها على خصخصة كل المعلومات التي ينتجها المجتمع. لكنه صرح هش، يتناقض مع أكثر الاحتياجات الإنسانية الأساسية، وهي استخدام الأفكار بحرّية.
يعود ماسون إلى كتاب ماركس "شذرات عن الآلة" (1858)، والذي نشر في أواسط القرن العشرين. رأى ماركس أنه، بمجرد أن تصبح المعرفة قوة إنتاج في حد ذاتها، تتجاوز قيمتها قيمة العمل الحقيقي المبذول لإنتاج الآلة. والمسألة هي من يتحكم في "قوة المعرفة"، وليس
بتحقيق الأرباح من خلال الأجور. فحين تكون الحصة الأكبر من العمل من نصيب الآلات، يكون للمعرفة الموجودة داخلها طبيعة اجتماعية. وتخيّل ماركس إيجاد آلة مثالية في اقتصاد تلعب فيه الآلة دوراً رئيسياً، تكون تكلفتها صفراً وتبقى للأبد، ولن تضيف، بالتالي، قيمة إلى الإنتاج، وستقلل بمرور الوقت الأسعار والأرباح وتكلفة العمل. هذه المعرفة ستخزن في العقل العام، ليتم مشاركتها اجتماعياً. برأي ماسون، هذا الكلام ثوري، بغض النظر عن الحالة التي آلت إليها الماركسية. فاليوم، ومع المعادل المعاصر لاكتشاف العالم الجديد (الإنترنت)، يمكن نسخ السلع المعلوماتية بسهولة، عدداً لا نهائياً من المرات، بمجرد إنتاجها، وتكلفة إعادة الإنتاج هي صفر. وبمرور الوقت، وبتطبيق قواعد التسعير الرأسمالية العادية، ستقترب أيضاً أسعار إنتاجها من الصفر.
توسيع التقنية والمعرفة الاجتماعية، إنهاء الحاجة إلى العمل، ودفع الاقتصاد نحو الوفرة، ضمن نظام نسبة الكربون فيه صفر، وإنتاج آلات وخدمات بتكلفة قيمتها صفر، وكمية عمل ضروري تقترب من صفر، هي عوامل التغيير، كما يراها ماسون.

اقتصاد المشاركة
تبدو المجتمعات التعاونية التي يؤسس لها اقتصاد المشاركة "Sharing Economy" من أشكال المجتمع البديل لمناصري ما بعد الرأسمالية. يُذكّر ماسون بالتجربة اليونانية في ظل الأزمة الأخيرة، حيث أنشأت جمعية شعبية غير هادفة إلى الربح أكثر من 70 مشروعاً ناجحاً مع مئات المبادرات، تنوعت بين اقتحام البيوت المهجورة للسكن فيها، والمشاركة في النقل بالسيارات، والحضانات المجانية وغيرها. قد لا تنظر علوم الاقتصاد لهذه المشاريع كأنشطة اقتصادية. لكنهم، برأي ماسون، موجودون، يتاجرون ويستخدمون عملة ما بعد الرأسمالية: أوقات الفراغ، أنشطة التشبيك، والأغراض المجانية. يبدو ماسون مقتنعاً بأن عوامل الجديد توجد في أحشاء القديم. فهناك، برأيه، ثقافة فرعية ظهرت في مجال الأعمال. ومع دعمها، لن تكون مجرد محاولة للاحتماء من الليبرالية الجديدة، بل طريقة جديدة في الحياة في طور التشكل.
فعلياً، بدأ اقتصاد المشاركة يلقى دعماً حكومياً، فعلى سبيل المثال، أخذت ميزانية العام 2015
في المملكة المتحدة بالاعتبار دعم هذا النوع من الاقتصاد. ولكن، إلى أي حد يخرج اقتصاد المشاركة عن منطق الاقتصاد الرأسمالي الحالي؟ هناك أرباح تجنيها شركات لقاء وساطتها بين أفراد المجتمع التعاوني، وهذه الأرباح لا تستثمر في الإنتاج، بل في الترويج والإعلان، للحفاظ على المنافسة في هذه السوق، أي أنها تحافظ على ندرة السلع والخدمات، من دون تحقيق الوفرة الكفيلة بخفض الأسعار عبر الإنتاج. ومع أعداد من الموظفين وفق نظام "self-employed" لا توفر هذه الشركات للموظفين التدريب والمعدات، ولا ضمانات من أي نوع. لا يوضح لنا ماسون كيف يمكن لاقتصاد المشاركة ألا يكون إحدى حيل الطفيلية الرأسمالية الريعية، للالتفاف على الأزمة الحالية.

الماركسية وما بعد الرأسمالية
إذا عدنا إلى ماركس، ففي المرحلة الشيوعية الأولى، سيكون "من كل حسب جهده ولكل حسب عمله"، ومعنى ذلك أننا مازلنا في مجتمع الندرة ومنطق السوق الرأسمالية، حيث تستمر كمية العمل والأجور في تقدير ما يمكن الحصول عليه من أشياء. أما المرحلة النهائية التي تضمحل فيها الدولة، بزوال الصراع الطبقي، ويتم التوزيع فيها على أساس الحاجة، فهي غير واضحة المعالم، ما يدفعنا إلى القول إن الحل الماركسي ليس حاسماً في القضاء على المنظومة الرأسمالية نفسها، بقدر ما يهدف لاستبدال سلطة الرأسمالية بسلطة البروليتاريا، عبر الثورة الطبقية.
وعلى الرغم من أنه يعرض في كتابه، ويستند، إلى أدوات تحليلية عديدة، والمقولات الماركسية الرئيسية، لاسيما الصراع الطبقي، في فهم وتوضيح آليات المنظومة الرأسمالية وأزمتها الراهنة، إلا أنه يختلف مع ماركس بشأن سبل الانتقال إلى المجتمع البديل. تبدو مشكلة اليساريين لدى ماسون أنهم اعتقدوا أن لا شيء جديدا يمكن أن يوجد داخل النظام القديم، فسعت الطبقة العاملة إلى إيجاد واقع بديل داخل الرأسمالية وضدها، وبعد استنفاد فرص التحول على النمط السوفييتي، أصبح اليسار مشغولاً بالمعارضة. لكن ما بعد الرأسمالية تتطلب بناء بدائل داخل النظام القائم، واستخدام القوة الحكومية بشكل جذري ومختلف، وتوجيه كل الطاقات ناحية هذا التحول، بدل الدفاع عن عناصر عشوائية داخل النظام القديم. وإذا كان لدينا قوة عمل يمكن أن نسميها بروليتاريا، فإنها، حسب ماسون، لم تعد تفكر وتتصرف على هذا النحو، والتغيير اليوم غير منوط بالحركات الهرمية (الثورة الطبقية)، بل بالحركات الأفقية التي يصنعها أفراد متعلمون ومتصلون ببعضهم، يقفون من العالم، خلف شاشات حواسيبهم، على بعد لمسة من إبهامهم.
انتهت الماركسية إلى استبدال رأسمالية الدولة بالدولة الرأسمالية. ولكن، إذا كانت الأزمة المالية الأخيرة قد أكدت أن تجاوز الرأسمالية لم يعد حلماً طوباوياً، فإن السؤال المطروح الآن، مع تأكيد ماسون على تجاوز مدعوم بالدولة نحو المرحلة الجديدة: ما الذي يدفع دولة رأسمالية لتقويض منظومتها الاقتصادية التي قامت عليها حتى الآن، طواعية؟ لا يقدم ماسون تلك المبررات، لاسيما أننا نتحدث اليوم، لا عن مجرد "التقاط الخيوط من طبقة الملاكين"، بل عن تغيير بكرة الخيط بكاملها. وحتى الآن، لم تحقق لا الحركات الهرمية، ولا الأفقية، مساعيها في توفير عناصر مجتمعات الوفرة المثالية، في ظل الدولة القائمة.

حسام أبو حامد
حسام أبو حامد
كاتب وصحافي فلسطيني. من فريق موقع العربي الجديد قسم السياسة.