دروس حزب النور في مصر

دروس حزب النور في مصر

27 أكتوبر 2015

حزب النور يساند السيسي قبل الانتخابات الرئاسية (مايو 2014/الأناضول)

+ الخط -
منذ انقلاب يوليو/تموز 2013 على التحول الديمقراطي في مصر، وحزب النور السلفي يتعرض لهجوم لا يتوقف من التيار الديني نفسه، خصوصاً من أتباع جماعة الإخوان المسلمين، وتحالف دعم الشرعية المناهض للانقلاب. وينصبّ معظمه على قضية واحدة، وهي علاقة حزب النور بالسلطة، فالتيارات الدينية تأخذ على حزب النور دعمه الانقلاب العسكري ومساره المليء بالانتهاكات والجرائم الحقوقية ضد عشرات آلاف المعارضين وأبناء التيار الديني، في وقت خرج فيه حزب النور على حكم الرئيس محمد مرسي، القادم من صفوف التيار الديني نفسه، والذي لم يشهد عهده عشر الانتهاكات الحقوقية والسياسية التي تشهدها مصر منذ الانقلاب.
مثّل موقف حزب النور المساند للانقلاب ومساره السياسي، والناقد أيضا للإخوان المسلمين وأنصارهم من التيارات الدينية، سبباً رئيسياً للهجوم عليه، لما يشتمل عليه من تناقضات سياسية واضحة، كدعم انقلاب عسكري يرفع شعارات علمانية، ويهاجم الجماعات الدينية بشدة، في مقابل التخلي عن مسار التحول الديمقراطي، سمح بحكم رئيس قادم من التيار الديني، وأعطى حماية كبيرة للمتدينين أنفسهم، بما في ذلك حزب النور الذي لم يشارك قادته في السياسة، إلا بعد ثورة يناير التي انقلب عليها العسكر بدعم من "النور".
في هذا السياق، نرى أن نقد المصريين والتيار الديني، لحزب النور وسياساته، يجب أن يكون أكثر عمقاً، وآلا يقتصر على علاقته بالسلطة، وأن عدم النظر بشكل جاد وعميق في تجربة الحزب والسلفيين منذ بداية ثورة يناير، هو بمثابة انتقائية في التعامل، وتغاضٍ عن الجزء الأكبر من أخطائه، وأخطاء التيار الديني عموماً.

صحيح أن علاقة "النور" بالسلطة إشكالية بشكل فج، لكن دروس هذا الحزب السياسية أكبر بكثير من هذه القضية وحدها، ولو كان "الإخوان" ومعارضو "النور" المتدينون أمناء مع أنفسهم، فعليهم التعامل مع أخطاء حزب النور كلها حزمة واحدة، والتوقف عن تجزئتها والتعامل معها بانتقائية. وكان كثيرون قد حذّروا من طبيعة بعض الجماعات السلفية الخاضعة للسلطة، فالمعروف أن مدارس سلفية تعارض بشدة العمل السياسي، وترفض المشاركة، وتكتفي بطاعة الحاكم، حتى لو كان مستبداً، بل يتطوع بعضها لمهاجمة من يحاولون المشاركة السياسية، حتى لو كانوا من التيار الديني نفسه، ويسمى بعضهم تلك المدرسة السلفية بالمدخلية. وبغض النظر عن التسميات، فهذا تيار موجود، وكان يجب دائماً الحذر منه، عند التعامل مع سلفيين حديثي العهد بالمشاركة السياسية، مثل حزب النور.
عموماً، لا يبدو تيار ياسر برهامي والدعوة السلفية المسيطرة على حزب النور، بالضرورة من هذه المدرسة، فهو من مدرسة أكثر براغماتية أو انتهازية، فمع الثورة وجد برهامي وأعوانه أن الفرصة باتت سانحة للمشاركة السياسية، فقرّروا المشاركة رافعين شعارات سلفية (كالحفاظ على هوية مصر الإسلامية وتطبيق الشريعة)، وسرعان ما حصدوا أصواتاً كثيرة، مكّنت "النور" (قبل أن يمر بتجربة انشقاق في أوائل عام 2013) من أن يصبح ثاني أكبر حزب سياسي مصري في مجلسي الشعب والشورى اللذين تم انتخابهما بعد ثورة يناير.
ولعل انتهازية حزب النور ورفضه الصدام مع السلطة كانت بمثابة بوصلة سياسية حركية خفية، تتحكم في تصرفاته، لا تقل أهمية عن بوصلته الفكرية السلفية المعلنة، فبعد الانقلاب العسكري، وتراجع فرص التحول الديمقراطي والحريات، بما في ذلك الحريات الدينية، فضل الحزب الدفاع عن مسارٍ، يضمن له رضا السلطة، على الرغم من بعده عن الحريات الدينية نفسها.
عدم تنبه قادة "الإخوان" والتيارات الدينية إلى انتهازية قادة "النور" السياسية وموقفهم المتناقض من السلطة، لم تكن المشكلة الوحيدة التي كلفتهم الكثير، وفرّقت بعضهم عنهم قبل الانقلاب العسكري، فمشكلات "النور" كانت أكبر بكثير من علاقته الخاضعة بالسلطة المستبدة، وفي مقدمتها مدخله السياسي الذي تميز بالتركيز الهائل على قضية الهوية من ناحية، والصدام مع الآخرين من ناحية أخرى.
فدخول "النور" وقطاع كبير من السلفيين والتيار الديني، بعد ثورة يناير وبعد عزلة سياسية دامت عقوداً، كان من باب ديني هوياتي إلى حد كبير، وأحيانا طائفي، فلا يوحد السلفيين شيء أكثر من قضية الهوية، وربما الصدام مع الهويات المخالفة، بما في ذلك الأقباط والشيعة والقوى العلمانية. ففي حملة انتخابات برلمان 2015 (مثلا) تتصدر تصريحات قادة الحزب عن السياسي القبطي، نجيب ساويرس، صفحات أنصارهم على وسائل التواصل الاجتماعي، وكأن مشكلة مصر تتمثل في تهديد ساويرس هويتها الدينية (كما يروج أنصار "النور")، بسبب خلفيته القبطية ونزعته العلمانية، وليست حالة التراجع السياسي والحقوقي والاقتصادي المخيفة التي تعيشها مصر منذ الانقلاب، والذي يقوده قادة الجيش المسلمون.
بعد ثورة يناير، طالب السلفيون بنظام إسلامي نقي، وفقا لتعريفاتهم، وبرّروا مشاركتهم بهذا الهدف، لكنهم افتقروا لرؤى واضحة وتدريجية لكيفية تحقيقه، كما افتقروا لموقف واضح من الديمقراطية ولإعلام ناضج، يتجنب الوقوع في الاستقطاب السياسي.
لذا، غذّى السلفيون (أو قطاع كبير منهم بقيادة حزب النور) الاستقطاب السياسي بشكل هائل، بسبب منطلقاتهم الهوياتية من ناحية، واستخدامهم الصدامي للديمقراطية من ناحية، فالسلفيون حولوا فوزهم السياسي المفاجئ والضخم لسبب لتحدي غيرهم والضغط عليهم، فبات الحديث ليس عن التوافق على التحول الديمقراطي وبناء النظام الجديد، ولكن عن حكم الأغلبية وغزوة الصناديق والقدرة على الحشد. فيما الديمقراطية ليست آلية لفرض رؤى الأغلبية، أو سحق هويات الأقليات الدينية والسياسية الأخرى، وإنما هي ضمان لحريات الجميع أولاً، وخصوصاً الكيانات الضعيفة كالأفراد والأقليات، وعدم توغل الدولة على هوياتهم.
وعلى الرغم من أن هناك تفسيرات كثيرة لمطالب السلفيين والمتدينين بالشريعة وتطبيقاتها، ولعلاقة الشريعة بحقوق الآخرين، إلا أن مدخل "النور" وقطاع واسع من السلفيين الهوياتي الصدامي قسّم المصريين، متسبباً في مشكلة لا تقل بأي حال عن مشكلة علاقتهم بالسلطة، فالاستقطاب السياسي كان أحد أهم أدوات الانقلاب العسكري ومبررات استمراره.
وإلى مشكلتي النور السابقتين (علاقته بالسلطة ومنهجه الهوياتي الصدامي)، ثمة مشكلة ثالثة، لا تقل أهمية، تتعلق بموقفهم من الديمقراطية نفسها، فهناك جماعات سلفية رفضت الديمقراطية وترفضها لأسباب دينية، وهناك قطاع آخر يميل إلى استخدام العنف، لعدم إيمانه بإمكانية أن تحترم الأنظمة العربية الديمقراطية، وبأن الغرب الداعم لتلك الأنظمة لن يسمح بصعود الإسلاميين. أما "النور" فموقفه براغماتي، يرى أن ظروف ما بعد ثورة يناير تسمح له بالمشاركة، في محاولة لفرض رؤيته للديمقراطية، وهي تقوم على الإيمان بالآليات الديمقراطية في ظل نظام "إسلامي" يطبق "الشريعة". وبعد الانقلاب، قرّر الحزب المشاركة في العملية السياسية نفسها، حتى بعد انقضاء فسحة الديمقراطية المتاحة، وكأن الديمقراطية نفسها لا تعنيه، بقدر ما يعنيه المشاركة السياسية، رافعاً شعاراته "السلفية" والفوز برضا الحاكم.

مشكلة الثلاثة، من يرفض الديمقراطية لأسباب دينية، أو من يؤمن بالعنف، أو من لا يتمسك بالديمقراطية بقدر ما يتمسك بالشعارات السلفية ورضا الحاكم، هي موقفهم السلبي من الديمقراطية، والتي تعد هدفاً للمرحلة الحالية (الربيع العربي) من مراحل تحرر الشعوب العربية من الاستبداد. فالتيارات الثلاثة ترفض الديمقراطية، أو تتعامل معها على مضض، وكأنها شر مفروض عليها، وربما قبلتها آلية سياسة مشروطة، أو غير ذات قيمة في حد ذاتها، فهناك من يرفضها باعتبارها اختراعاً غربياً كافراً، وهناك من يفضل العنف عليها. ويرى حزب النور في الديمقراطية مجرد أداة لفرض رؤية الأغلبية من خلال صناديق الاقتراع، أو أداة ليس لها قيمة أساساً، مقارنة برضا الحاكم، والسعي إلى الرؤى نفسها على المجتمع من خارج المسار الديمقراطي.
ولا تقتصر هذه المواقف السلبية من الديمقراطية على "النور" وحده، ولا على قطاع من السلفيين، فقد انتشرت في أوساط دينية وجماهيرية مختلفة في أعقاب الانقلاب، حتى بات الحديث عن التحول الديمقراطي وأهمية العودة إلى المسار الديمقراطي بمثابة خروج عن تيار قوي، يدعو إلى الانتقام والغضب، وفرض المواقف بالقوة، بعيدا عن الديمقراطية ومفرداتها ومحاولة المطالبة بعودتها. وكأن الديمقراطية جرّبت في مصر بما يكفي وثبت فشلها، وكأنها لم تنصف التيار الديني نفسه، أو كأن الانقلاب العسكري على الديمقراطية نفسها دليل على فشلها، وليس العكس. فعلى الرغم من أن صعود السلفيين و"الإخوان" كان بسبب الديمقراطية نفسها، وأن الضغوط التي يتعرّضون لها حالياً هي بسبب الانقلاب على المسار الديمقراطي، إلا أن الموقف السلبي من الديمقراطية وموجة الهجوم عليها في أوساط التيار الديني تتزايد.
ويزيد الموقف تعقيداً عدم وضوح معنى الديمقراطية، وعلاقتها بالإسلام منذ البداية لدى قطاع واسع من المتدينين، ما ساهم في غياب التوافق السياسي على التحول الديمقراطي، ومهّد للانقلاب العسكري، ما يستدعي الحاجة إلى التركيز، حالياً، على توعية الناس بمعنى الديمقراطية وعلاقتها بالإسلام، وحاجتنا إليها مقدمة لعودة المسار الديمقراطي، وهي قضايا وتعريفات كان بعضهم يظن أنها حُسمت. ولكن، للأسف، ساهم صعود قطاع واسع من السلفيين والانقلاب العسكري والتيارات العلمانية الرافضة للديمقراطية وجماعات العنف في تشويه معانيها لدى الناس.
ولا يُنسى أنه كان لصعود "النور" والسلفيين في مصر بعد ثورة يناير مزايا عديدة، في مقدمتها خروج قضاياهم وأفكارهم إلى العلن، وصدامها مع الواقع، ما فرض على السلفيين التفكير في قضايا لم تشغلهم كثيراً في الماضي، وفي مقدمتها موقفهم من الديمقراطية نفسها، وحاجتهم إلى تطوير برامج جادة لعلاج مشكلات الناس، وعدم الاكتفاء برفع شعارات دينية.
وقد كتب هذا المقال، للقول إن مشكلات صعود حزب النور لا تقتصر فقط على علاقته بالسلطة، وتقربه المؤسف من الحاكم المستبد، لكنها امتدت، أيضاً، لمدخله الهوياتي للسياسة الذي قسم الناس، ولتحويله الديمقراطية وأصوات الناخبين إلى أداة للصراع وقهر الخصوم، وإهماله أهمية التوافق على المسار الديمقراطي نفسه، بل وعدم مبالاته بالديمقراطية نفسها، وهجومه المستمر عليها، والنظر لها آلية يمكن التغاضي عنها تقربا لحاكم، وهذه مشكلات لا يعاني منها "النور" وحده.
ومن الأمانة ألا يقتصر نقد "النور" في أوساط الإخوان المسلمين والتيار الديني، والمصريين عموماً، على علاقته بالسلطة، والتغاضي عن مشكلاته الرئيسية الأخرى، ولا عمن يشاركونه تلك المشكلات في هذه الأوساط نفسها.