أزرار القميص والموت الأنيق

أزرار القميص والموت الأنيق

20 أكتوبر 2015

بهاء عليان أحكم أزرار قميصه قبل استشهاده (العربي الجديد)

+ الخط -
من لم يفقه اللغز وراء إلحاح الشهيد بهاء عليان على أمه أن تساعده في إحكام تزرير قميصه، قبل أن يخرج لتنفيذ عمليته في الحافلة الإسرائيلية قبل أيام، لن يفقه أبداً لغز فلسطين ذاتها، لأن كل شهيد جديد ما يزال يعتقد أنه آخر الشهداء الذين سترفع بعدهم تلك البلاد راية نصرها على الموت الذي يطاردها قبل التاريخ. ولذا، يتعين عليه أن يذهب إلى شهادته بكامل أناقته وقيافته.
في فلسطين جاذبية غريبة للغزاة، وأخرى للمقاومة، والغريب أن الغزاة يلدغون من الجحر نفسه عشرات المرات، من دون أن يأخذوا العبرة من أسلافهم، وكأنهم يمضون تحت تأثير منوم مغناطيسي، يدفعهم دفعاً إلى الانتحار الجماعيّ في تلك البلاد.
في المقابل، يعيش الفلسطيني على الرقعة المثلثة نفسها، مشدوداً إلى وتر التحدّي، معايشاً موته اليومي كصلاة مفروضة، من دون أن يمنعه ذلك من التلذذ بكعكة الزعتر التي يتناولها على الرصيف كل صباح، قبل أن يمضي إلى عمله أياً كان، طلباً للرزق أو الشهادة.
على هذا المنوال، خرج بهاء من بيته بكامل بهائه، ولربما مرّ على مكتبه، لإنجاز عمل يومي مستعجل، وضرب موعداً مع صديق يتزامن مع موعد العملية التي قرر القيام بها؛ لاحتساء فنجان قهوة في مقهى أبو علي في رام الله؛ لأن الحياة والموت في عرف الفلسطيني وجهان لحرية واحدة.
للفلسطيني فهمه الخاص للموت، فهو لا يتعارض أبداً مع حبه الحياة. وعلى خلاف اليائسين، يرى تلك الحياة شاسعةً، ولو من ثقب إبرة، وبهيجةً حتى من نافذة جدار آيل للسقوط، ولا يضيره أن يعشق ويخطب ويتزوج، قبل موعد تنفيذ عمليته بيوم، فحياته قابلة للتكثيف الجماليّ، مثل حياة الفراشة التي لا تعيش أزيد من بضع ساعات، ومهيأة لاختصار قصير، ولكن مدوّ كرصاصة.
لن يفهم العالم لماذا يختار الفلسطيني، الآن، سكين المواجهة مع عدوه، لأن هذا العالم لا يعيش على حدّ خنجر، كما يعيش الفلسطيني في صراعه اليومي مع الحياة والعدوّ معاً، ولأنه أبرع من "يحاصر حصاره"، فقد حوّل الخنجر الذي يحاصره في مكابداته اليومية من خنجرٍ على عنقه إلى خنجر في رأس عدوه.
ولن يفهم العالم لماذا أصر بهاء على إحكام أزرار قميصه قبل عمليته، كمن يذهب إلى موعد غراميّ، إلا إذا أدرك أن الفلسطيني مغرمٌ فعلاً بأرضه، ويحرص على لقائها بكامل أناقته وعطوره، ولا يتورّع عن الاستحمام وحلاقة ذقنه أيضاً، والتأكد من تسريحة شعره، لأنها عشيقة يليق من أجلها الموت في أقصى درجات أناقته وهندامه... لا فرق في هذا بين عاشق فنان مثل بهاء وكاتب مبدع مثل غسان كنفاني، ولا حتى فلاح بسيط لم ينس أن يحمل لها ضمة بنفسج بري من ربيع حقله قبل الذهاب إلى لقائها.
على هذا المنوال، ينبغي أن يتهجأ العالم شهادة الفلسطيني الأنيق، وألا يعجب من شاب يرى في القبر خندقاً للمواجهة، وامتداداً لحياته نفسها التي يكافح لانتزاعها من براثن الغزاة، على غرار ما قاله الراحل سميح القاسم، وهو يرثي رفيق شعره معين بسيسو: "وتريد قبراً؟.. غير خندق ثائر لا قبر لك".
نعم، فالقبر في عرف الفلسطينيّ ترفٌ إن لم يكن خندقاً للقتال. والموت ترفٌ إن لم يكن منذوراً للأرض. والحياة ترفٌ إن لم تكن قابلة للتحولات الدرامية المباغتة، من طريق إلى المدرسة، إلى رجم حجر، أو من التحاق بورشة بناء، إلى التحاق بالرفيق الأعلى في لحظةٍ مباغتةٍ، يصعد فيها منسوب الأرض في عروقه إلى أقصى درجات ضغطها، وهي لحظة مكرورة تلازمه مع كل زر قميص يحكم إغلاقه، وفي كل لقمةٍ مغموسةٍ بالزيت والزعتر، يتناولها في صباحات ما قبل الموت.

دلالات

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.