القيادة الإقليمية الجزائرية للمنطقة الصحراوية الساحلية .. الدور والرهانات

القيادة الإقليمية الجزائرية للمنطقة الصحراوية الساحلية .. الدور والرهانات

19 أكتوبر 2015

قوة جزائرية تبحث عن مخطوفين فرنسيين في تيزي أوزو(سبتمبر/2015/أ.ف.ب)

+ الخط -

ليس من السهل الاقتراب من ميدان السيطرة الإقليمية لإقرار إرادة "سيطرة" قوة ما، أو دولة ما، على إقليم محدد، ذلك أن الاقتراب من موضوع كهذا يحتاج إلى استخدام أدوات تحليلية اعتنت، خصوصاً في حقل نظريات العلاقات الدولية، بدراسة مواضيع "الهيمنة"، "السيطرة" و "انتشار القوة"، لكن الكثير منها كان يركّز على أدوات أتى عليها الدهر من أمثال القوة العسكرية، القوة الاقتصادية والقوة السكانية، من دون الالتفات إلى باب مهم في التخصص نفسه، درس "تحول مسلمات القوة التقليدية" ووجوب الاهتمام، عند دراسة مواضيع، مثل التي تتم دراستها دراستها في هذه المقالة، بمواضيع جديدة، تتعلق بــــ"القدرة" و"تعبئة القوة"، وهي مواضيع تتطرق إليها السطور التالية في إطار البحث في قدرات الجزائر، للتربع على عرش "القيادة الإقليمية" في جوارها الإقليمي، وعلاقة ذلك بالوضع الحقيقي في هذا الجــــوار، ومكانة الجزائر فيه واقعاً.

القيادة الإقليمية في المنطقة الصحراوية-الساحلية

تعتبر الجزائر، من حيث اعتبارات القوة التقليدية، قوة كبيرة في المنطقة الصحراوية الساحلية، بل هي القوة الأكبر بتلك المؤشرات، سواء نظرنا إليها من منظور المساحة، القدرة السكانية، القوة الاقتصادية (المتأتية أساسا من الطاقة)، بل وكذلك من منظور التجانس الاجتماعي، الديني والثقافي، وهو ميدان مهم تلعب على أوتاره قوى إقليمية كثيرة، معنية ومهتمة بشؤون المنطقة. كما تعد الجزائر من الدول الأكثر استقرارا في المنطقة، على خلفية مشهد ملؤه الفوضى العارمة، جرّاء تزامن تأثيريْن كبيرين، هما الفشل المزمن في منطقة الساحل، بفعل عوامل أمنية، سياسية وأخرى اقتصادية. والربيع العربي الذي أوجد التأثير نفسه الذي تركه الغزو الأميركي للعراق، أي فراغاً استراتيجياً، أضاف إلى غياب نظام إقليمي عربي، قادر على رفع تحديات التغيرات الجيوسياسية في المنطقة، عامل فشل أنظمة سياسية كثيرة، كان لدى العديد منها، على الأقل، مهمة أمنية، في احتواء مخاطر الجماعات الإرهابية والتهديدات الأخرى المترافقة مع ظاهرة الإرهاب، من جريمة منظمة، تهريب، تجارة المخدرات، .. إلخ.

من مقومات الجزائر التي يتم التركيز عليها، حالياً، للحديث عن "قوة إقليمية"، أو "دولة ذات دور محوري" في المنطقة المغاربية والساحلية:

-       توفرها على مخزون مريح من العملة الصعبة، بما يزيد عن 150 مليار دولار، جرّاء الارتفاع المستمر لمتوسط سعر البرنت النفطي الجزائري في الأسواق النفطية العالمية منذ قرابة عشر سنوات.

-       توفرها على مخزون نفطي وغازي كبيرين، في إطار ما تعرف بالمخزونات الصخرية، بما يعزز مكانتها المستقبلية في سوق الطاقة الدولية، والأمن الطاقوي، الغربي عموماً، والأوروبي خصوصاً.

-       توفرها على جيش قوي بمعدات حديثة، بعد اعتماد عمليات شراء كبيرة للسلاح المتطور، وخصوصاً من روسيا.

-       توفر الجزائر على تجربة معترف بها أميركياً وأوروبياً، في حقل محاربة الإرهاب، واعتماد الغرب على مقاربات النظام الجزائري في التعامل مع هذه الظاهرة.

تتوفر الجزائر على عوامل تأثير كبيرة في المنطقة الساحلية، بأدوات مالية (جرّاء توفرها على المخزون المذكور من الأموال)، عسكرية (جرّاء توفرها على الأداة الصلبة الأكثر جاهزية في المنطقة)، إضافة إلى الأداة الدينية العائدة أساساً إلى الصوفية (التيجانية خصوصاً) المنتشرة في الساحل، والتي يوجد غالبية شيوخها ومقارها الرئيسة في الجنوب الجزائري (غرداية والأغواط خصوصا).

إشكالية "الهيمنة" و"القيادة الإقليمية"

بالعودة إلى مؤشرات التفوق الجزائري "حسابياً" على كل الدول في جوارها الإقليمي الجغرافي، إلا أنه، في العلاقات الدولية، ووفق معطيات النظرية الواقعية الجديدة، ثمة مسار يجب أن تتخذه تلك المؤشرات، لتصبح ذات تأثير في ذلك الجوار، وهي:

1-   امتلاك مشروع لتبوء مكانة القوة الإقليمية، بتحويل تلك المؤشرات إلى أدوات تأثير على الجوار الإقليمي.

2-   امتلاك القدرة الإقناعية، في الجوار الإقليمي، على قدرة تحويل الدولة تلك المؤشرات إلى وسائل دعم لذلك المشروع الطموح، لتبوء مكانة القوة الإقليمية.

3-   إقناع القوى النافذة في النظام العالمي بقدرة تلك الأدوات على أداء مهام تحقيق "الاستقرار" في "المركب الأمني الإقليمي"، سواء بالتحالف، في موقع الصدارة والقائد، مع دول الجوار الإقليمــــــي، أو بإقناع تلك الدول بمسار القيادة الإقليمية، بموافقة تلك القوى النافذة في النظام الدولي.

عند العودة إلى النقاط السابقة، نقف أمام هول الفارق بين مسار القيادة الإقليمية للجزائر، وفق المؤشرات الكبيرة التي تتوفر عليها، والمكانة الحقيقية التي تتبوؤها في الجوار الإقليمي، أو لدى القوى النافذة في النظام العالمي، والتي لها مصالح في جوار الجزائر الإقليمي.

هل تتوفر الجزائر على مشروع لتبوء مكانة القوة الإقليمية؟ لم يرد، في تصريحات القيادات الجزائرية، المدنية والعسكرية، ما يشير إلى ذلك الطموح، أو على أنه عنصر في العقيدة الإستراتيجية والأمنية لبلد مهيأ طبيعيا لقيادة الجوار الجغرافي. وعلى الرغم من عدم توفر الجزائر على مصادر، يمكن أن تستقى منها معلومات بشأن العقيدتين، إلا أنه يمكن الرجوع إلى مصادر هي:

-        مجلة الجيش، لسان حال وزارة الدفاع الجزائرية.،

-       ملتقيات الدفاع التي دأب على عقدها مجلس الأمة (الغرفة العليا للتشريع).

-       خطب الرؤساء وتصريحات المسؤولين الجزائريين بشأن السياسة الخارجية.

وللاطلاع على مضمون العقيدتين، ومنهما، يمكن استيفاء معلومات حول مسار الإدراك للمسائل الأمنية الخاصة بالمنطقة، ودور الجزائر فيها.

بالرجوع إلى المصادر المذكورة، لم نقف ألبتة، على عنصر واحد، يمكن أن نفهم منه فرضية استغلال الجزائر إمكاناتها المادية للعب دور القائد الطبيعي لجوار إقليمي متوتر، خصوصاً أن للجزائر حدود مع ستة دول (المغرب، تونس، ليبيا، الصحراء الغربية، مالي، النيجر، موريتانيا) تعاني كلها من الفشل الجزئي، أو أنها آيلة إلى الفشل، بسبب التوترات التي لم تتوقف فيها، بسبب تدخل قوى نافذة في الشأن الجواري للجزائر في المنطقة (ليبيا ومالي أساسا).

من استقراء بيانات المصادر المذكورة، تبين ما يلي:

-       اتفاقها على أن الجزائر دولة كبرى في المنطقة. لكن، من دون ذكر أبعاد هذا الوضع في التأثير على مسارات الأزمات والتوترات في الجوار الإقليمي.

-       تذكيرها بالموقع الاستراتيجي للجزائر وبشساعة مساحتها، ما يعني ضمناً أنها معنية بأمن هذا الفضاء الجغرافي المتوتر واستقراره. لكن، لا تتبع هذا بفرضية "الاهتمام"، بما يعني قبولها بحدود دنيا من التوتر لا تتجاوزها وإلا، عند وقوع هذه الفرضية، فإنها قد تتدخل أو تستخدم أدوات التأثير لإيقاف ذلك التوتر عند الحدود المقبولة غير المؤثرة على مصالح البلاد واستقرار المركب الأمني الجواري.

-       تذكيرها، أيضا، بأن للجزائر ثوابت في سياستها الخارجية، وهي، أساسا، مبادئ "عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول"، "قدسية الحدود الموروثة عن الاستعمــــار" و"الاحتكام إلى الشرعية الدولية في حل الأزمات والحد من الصراعات".

-       عدم ذكرها أن للجزائر مشروع لتبوء مكانة "القائد الإقليمي" في المنطقة المغاربيـــة والساحلية، ما يعني أن البلاد لا تحرك الأدوات التي تمتلكها للتأثير على الجوار الإقليمي المتوتر.

لكن، عند النظر في السلوك الفعلي للجزائر، نجدها مدركةً دورها الريادي في ذلك الجــــــوار، من خلال، بصفة خاصة، المنافسة الشرسة (على مستوى القدرات العسكرية وعلى مستوى ملف الصحراء الغربية)، على أكثر من صعيد، مع المغرب، وهو التنافس الذي يوصف أنه لتبوء مكانة "القائد" للمنطقة المغاربية وعمقها الجنوبي، منطقة الساحل. ويتجلى ذلك الإدراك، أيضا، في التذكير الدائم بأنها الأحق بالتدخل الدبلوماسي لحل مشكلات المنطقة، عوضا عن التدخل المتكرر لفرنسا في المنطقة الساحلية، ومنذ 2011، في ليبيا، مع حلف الناتو، على الحدود الشرقية للجزائر.

وإذا نظرنا بعمق إلى ما سبق ذكره، نصل إلى نتيجة مهمة جداً، هي غياب أي مشروع للجزائر للعب دور الريادة في الجوار الإقليمي، من ناحية، وفشلها في الإقناع بمسلكية ضمنية لتلك الريادة في بعض المواقف، لدول الجوار وللقوى الكبرى النافذة، من ناحية أخرى.

تبين مما ورد في السطور السابقة أهمية امتلاك دولةٍ ما لمقومات. لكن، في إطار مشروع متكامل لتحويل تلك المقومات إلى منظومة تأثيرية، تجسيداً لخطوات مشروع استراتيجي، يمكن تحقيقيه في إطار فردي، أو ضمن مشروع أكبر، يزيد القوة الفردية حجماً وتأثيرا في الجوار الإقليمي، وفي مواجهة القوى الكبرى والمشاريع الريادية المنافسة.

بالنسبة للجزائر، يمكن القول إن المقومات موجودة فعلاً. لكن، من دون تعبئة تحولها إلى طاقة تأثيرية في اتجاهين: تحقيق الريادة الإقليمية وإقناع القوى الكبرى صاحبة المصالح في المنطقة بالدور الريادي على الأصعدة كافة، وخصوصاً في ملفات استقرار المنطقة برمتها.

النظر في مقومات القوة الجزائرية وتتبع مناحي التأثير الذي يمكن أن ينتج عنها، يصل بنا إلى استنتاج أن مقومات القوة تلك موجودة فعلاً. لكن، في إطار غياب (تغييب) لأية إرادة لتحويل تلك القوة إلى مشروع على المديين المتوسط والطويل (10 إلى 15 سنة)، لتبوء مكانة الريادة الجوارية والإقليمية.

تعتمد الجزائر على إستراتيجية تتضمن ثابتين، الحفاظ على بقاء النظام السياسي من خلال الشرعية المكتسبة في مجال محاربة الإرهاب، ونشر إدراك مفاده الاستثمار في الخوف المعولم: أوروبا من الإرهاب والاسلاموية، والجزائر من خلال الاستقـــــــــرار أو الفوضى مع التغيير، واحتمال سيطرة الاسلامويين على الحكم، وتحويل جنوب المتوسط إلى "هلال أخضر خطير".

(أستاذ جامعي وباحث جزائري)