"نص المرتّب".. كل البلد

"نص المرتّب".. كل البلد

18 أكتوبر 2015
+ الخط -
(1)

مبدئياً، لا أظن أن هناك إهانة أبلغ أو أفدح لجيش وطني، من خروج قائده الأعلى على الملأ، ليتحدث عن مكاسب ضباط جيشه، وامتيازاتهم المالية، كأنه يتحدث عن مشروع تجاري ربحي، وليس عن مؤسسة وطنية، لا يفترض بها أبداً أن تقيّم دورها بالمكاسب المادية، أو على الأقل يفترض بها ألا تفعل ذلك علناً، من باب "إذا ابتليتم بالانحراف عن دوركم الدستوري، فاستتروا".

للأسف، كانت هذه المرة الثانية التي يتحدث فيها عبد الفتاح السيسي، بشكل أو بآخر، عن "عرق الجيش". في الأولى، خرجت العبارة المهينة إلى النور، بفعل تسريبات الغرف المغلقة، فتجاهلها كثيرون ممّن أحسنوا الظن به، أملاً في أن تكون قد امتدت إلى كلماته يد التلاعب الإلكتروني، أو ربما إدراكاً منهم لفداحة مواجهة حقيقة انحطاط معنى تلك العبارة، لكن السيسي كرر المعنى نفسه، بصيغة أخرى أفضل شكلاً، في خطابه الذي ألقاه في ذكرى نصر أكتوبر، وسط قادة الجيش وكبار ضباطه، حين تحدث عمّا يثار حول ارتفاع الإنفاق على القوات المسلحة، متحدثاً، بشكل مفاجئ، عن تضحيات الجيش المادية التي جعلت ضباطه وجنوده "يقبضون نصف مرتباتهم حوالي عشرين عاماً".

لم يدم حديث السيسي عن تلك القضية الشائكة طويلاً، كان قد ظهر عليه يومها الارتباك الذي برره أحد أصابعه الإعلامية بأنه كان مجهداً، ربما من كثرة التوقيع على صفقات التسليح التي لم يقدم السيسي، في خطابه، تفسيراً أو تبريراً لوصول نفقاتها إلى مليارات الدولارات (81 مليار جنيه مصري في بعض التقديرات)، في بلد مهدد بمزيد من الأزمات الاقتصادية الطاحنة، لم يفعل ذلك، حتى بمواصلة الحديث المعتاد عن التحديات الاستراتيجية والمؤامرات الكونية، بل اختار الحديث عن التضحيات المالية لضباط الجيش، ليبدو أنه يرد، بشكل غير مباشر، على حالة التذمر الشعبي المتزايدة من الارتفاع المستمر لمخصصات ضباط الجيش، العاملين والمتقاعدين، والتي لعلها وصلت إلى السيسي، عبر تقارير أجهزته الأمنية الراصدة لحركة الشارع، ولو حتى بتصويرها على أنها أقاويل مغرضة، يضخّمها عملاء الطابور الخامس، الساعون إلى هدم الدولة.

كنت أتابع، يومها، أصدقاء لا زالوا يعيشون صراعاً طاحناً مع أنفسهم، محاولين إقناعها بأنها لم تشرب مقلباً مؤسفا في قدرات الزعيم الملهم. ولفت انتباهي أن بعضهم فسّر ما قاله السيسي عن التضحيات المالية بأنه كان يتحدث عن فترة حرب الاستنزاف المجيدة، وما تلاها، والتي حفلت بتضحيات مشرّفة لضباط القوات المسلحة وجنودها، قبل أن يرد عليهم آخرون بأن السيسي لم يكن يتحدث عن هذه الفترة التي لم يشهدها أصلاً، بل عن السنين التي قاد فيها أستاذه المشير حسين طنطاوي الجيش، بدليل أنه استشهد بطنطاوي الذي كان حاضراً خلال حديثه. وكالعادة، لم يغلب أولئك الذين قاموا، أخيراً، بتشغيل وضع التعريص الآلي، وأخذوا يتحدثون، بصوت زاعق، عن تضحيات الضباط والجنود في الحدود الشرقية والغربية، والتي لا تكفي لتعويضها كل أموال الدنيا، وهو حديث يتصور هؤلاء أنه ينبغي أن يخرس جميع المنتقدين، حتى الذين يتساءلون بأسى بالغ، عن الأسباب التي جعلت الضباط والجنود يفقدون أرواحهم، وعن الإجراءات التي كان ينبغي أن تتخذ لتقليل نزيف دمائهم.

على الصعيد الإقتصادي، لم يكن غريباً أن يعزف متخصصون كثيرون عن مناقشة السيسي في تفاصيل التضحيات المادية لضباط الجيش في عهد مبارك، فتكلفة الحديث في هذا الأمر باهظة، كما يعلم الجميع، والمعلومات فيه أيضا تتعرض للتعتيم الشديد. ومع ذلك، يظل معلوماً للمتابعين كافة، أن المشير طنطاوي، في فترة قيادته الطويلة الجيش، استبدل فكرة الاعتماد على ميزانية الدولة في زيادة مرتبات ضباط الجيش، بوسيلة أخرى أنفع وأنجع، هي تعزيز النشاط الاقتصادي للقوات المسلحة، ومدّه ليدخل في كل الجوانب التي يمكن تصورها، لكي لا تظل كل المرافق التابعة للقوات المسلحة، من مستشفيات ونوادٍ اجتماعية ومنافذ خدمية، أماكن قاصرة على ضباط الجيش فقط، بل تتحول إلى مؤسسات تجارية، تحقق أرباحاً كبيرة، تصب في ميزانية الجيش، وهو ما جعل المشير طنطاوي، كما كتب الروائي أسامة الشاذلي، في شهادة له بحكم عمله ضابطاً في القوات المسلحة سابقاً، يعلن بفخر رفضه طلب زيادات في مرتبات الضباط من مبارك، قائلا للضباط في مؤتمراته "محدش يكلمني في زيادة مرتبات.. أنا مدخل عندكم فلوس عشان تعتبروا مرتباتكم بوكيت موني"، وهو ما تخلى عنه طنطاوي، بعد قيام الثورة ونزول الجيش إلى الشارع، وما أعقبه من تداعياتٍ، فرضها احتكاك الجيش بالمدنيين، حيث بدأ، منذ تلك اللحظة، مسلسل زيادة مضاعفة رواتب الضباط والمعاشات العسكرية، بشكل مضطرد لم يتوقف في عهد "الإخوان" القصير، قبل أن يتضاعف في عهد السيسي الذي تزداد حاجته، مع الوقت، إلى دعم المؤسسة التي يحكم البلاد باسمها، والتي لا يثق في أي مؤسسة أخرى غيرها، تلك المؤسسة التي، وإن حصل ضباطها في فترة ما، على "نص المرتب"، فقد كان لديهم دائما "كل البلد". 

(2)

في دراسة مهمة بعنوان (جنرالات حسني مبارك ـ الوظائف الثانية والمكافآت المالية لنخبة مصر العسكرية)، يتحدث أستاذ العلوم السياسية المساعد في كلية كارلتون، هشام بوناصيف، عن استخدام حسني مبارك زيادة الامتيازات المالية لكبار الضباط وسيلة ثابتة للتحكّم في القوات المسلحة، حيث قام مبارك، ثلاثة عقود قضاها في السلطة، بربط كبار الضباط بنظامه برابطة أبدية لا تنفصل، بتعزيز امتيازاتهم المادية والسماح لهم بالاستفادة والتربّح من مناصب ما بعد التقاعد. (نشرت الدراسة بالإنجليزية في 2012 في مجلة ميدل إيست ريفيو، وستنشر مترجمة إلى العربية في كتاب يصدر قريباً "اللعب بالنار"، من إعداد وترجمة حمد العيسى، جمع فيه دراسات عن خبايا عهد مبارك).

يشير بو ناصيف، في دراسته، إلى أن صغار الضباط وضباط المرتبة الوسطى، لم يحققوا مكاسب في ظل عهد مبارك، مثل كبار الجنرالات، حيث وصل الراتب الشهري لرتبة ملازم أول في القوات المسلحة، بحلول نهاية حكم مبارك، بالكاد إلى 2200 جنيه، لكن القوات المسلحة كانت تسد نقص الراتب بتوفير الرعاية الصحية والمرافق السكنية التي يدفع الضباط ثمنها أقساطاً شهرية، مضيفا: "لكن، في حالة إذا ما بقي هؤلاء الضباط مخلصين، أو على الأقل، لا سياسيين، فيمكنهم الصعود في التسلسل الهرمي، والانضمام إلى دائرة كبار الضباط من أصحاب الامتيازات، بعبارة أخرى، يمكن أن يأتي دورهم إذا امتثلوا للنظام".

وفي استعراضه قائمة التعيينات في الحكم المحلي في عهد مبارك، يرصد بو ناصيف كيف تحولت وظيفة المحافظ إلى مكافأة للجنرالات الذين يرضى عنهم مبارك، فمن ضمن سبعة قادة للحرس الجمهوري، خدموا وتقاعدوا في عهده، تم تعيين أربعة محافظين، كما تم تعيين 11 من 21 جنرالا من الذين قادوا الجيش الثاني الميداني والجيش الثالث الميداني. ويستعرض الباحث قضايا الفساد التي تم نشر ما يفيد تورط بعض هؤلاء المحافظين فيها، ليصل إلى أن مجرد احتمال بالحصول على ثروة باذخة بعد التقاعد أعطى كبار الضباط حافزاً لكسب رضا مبارك، خصوصاً أنه كان يتم دائماً توفير الحماية من الملاحقة القضائية لأنشطة الجنرالات المتقاعدين غير المشروعة، طالما بقي هؤلاء موالين لنظام مبارك.

يلاحظ بو ناصيف أنه في حين بقيت نسبة لواءات الشرطة الذين يتم اختيارهم محافظين ثابتة، طوال عقود حكم مبارك الثلاثة، فقد ارتفعت أعداد قادة الجيش الذين يتم اختيارهم محافظين، ما يؤكد أن مبارك كلما طال بقاؤه على الكرسي، تضاعفت حاجته إلى تأمين منصبه بعلاقات أكثر قوة مع ضباط الجيش بالتحديد، ففي العقد الأول لحكمه بلغ عدد ضباط الجيش الذين تم اختيارهم محافظين تسعة فقط، ليبلغ عددهم في العقد الثاني 28 ضابطا، وفي العقد الثالث 29.

لم تكن إدارة المحافظات وحدها المكافأة المتاحة، في 2011، كانت هناك أيضا مناصب نواب المحافظين ورؤساء المدن ورؤساء الأحياء، وكلها مناصب كانت تشكل إغراءات مادية ومعنوية لضباط متقاعدين كثيرين، كانت تتم الاستعانة بهم، بدعوى توفير الضبط والربط، وهو زعم يسقط بمجرد السير في شوارع أيٍّ من أحياء مصر التي تشكل أحوالها دلائل حية متحركة على انتشار الفساد، وتحوله إلى أسلوب حياة في تلك الأجهزة التي كتبت عام 1995، متهكما، أنها سُمّيت بالمحليات "لأن لقمتها حلوة". وعلى الرغم من أن الكل ظل يشكو، على مر السنين، من تدهور أوضاع المحليات وانتشار الفساد فيها، إلا أن الشكاوى لم تجد أذنا صاغية لدى مبارك ورجاله، ففي العام الذي انتهت فيه فترة البحث في الدراسة، كان هناك 14 حياً يترأسها ضباط رفيعون من أصل 25 حيا، واحتل 11 ضابطا رفيعا وظائف مماثلة في الجيزة، وثمانية في الإسكندرية وثمانية في السويس، وتسعة في محافظة البحر الأحمر، فضلا عن حوالي ألفي وظيفة في مختلف إدارات الحكم المحلي، شغلها كبار الضباط المتقاعدين.

(3)

ستجد ظاهرة توغّل الضباط في المناصب المدنية أيضا في شركات مملوكة للدولة، وظلت تمنح الأفضلية لضباط الجيش المتقاعدين على غيرهم من المدنيين. مثلا، كان ضباط القوات البحرية الأرجح في الحصول على مناصب رفيعة في مجال النقل البحري، ليس فقط مقارنة بأقرانهم من المدنيين، بل مقارنة بأقرانهم من ضباط الجيش والقوات الجوية، فآخر ثلاثة قادة للقوات البحرية في عهد مبارك احتلوا المناصب القيادية في هيئة قناة السويس، كما تم تعيين رؤساء الموانئ في الإسكندرية وبور سعيد ودمياط والبحر الأحمر، وكذلك الحال في ما يخص رؤساء أقسام هذه الموانئ المختلفة الذين تم اختيارهم دائماً من ضباط البحرية السابقين. وهنا لا يجد بو ناصيف ما هو أفضل لتجسيد الصورة من خبر نشرته مجلة (إنترناشيونال ريفيو) المتخصصة في الشؤون البحرية، عن احتفال، أقيم في هيئة ميناء الإسكندرية، تاركا لك من مجرد قراءة الخبر أن تستنتج الكثير.

يقول الخبر "أقامت هيئة ميناء الإسكندرية حفل تكريم وإفطار للسيد اللواء بحري/ توفيق أبو جندية، رئيس قطاع النقل البحري ورئيس هيئة ميناء الإسكندرية السابق؛ والسيد اللواء بحري/ إبراهيم يوسف، رئيس هيئة ميناء الإسكندرية الأسبق. وقد شرّف الحفل بحضور السيد الفريق/ مهاب مميش، قائد القوات البحرية؛ والسيد الفريق/ أحمد صابر سليم والسيد الفريق/ تامر عبد العليم، قائدي القوات البحرية السابقين؛ واللواء بحري أ. ح/ مصطفى وهبة، رئيس أركان القوات البحرية. كما حضر الحفل كل من اللواء بحري/ ممدوح دراز، رئيس هيئة موانئ البحر الأحمر، واللواء بحري/ إبراهيم صديق، رئيس هيئة موانئ بورسعيد؛ واللواء بحري/ السيد هدايه، رئيس هيئة ميناء دمياط؛ واللواء بحري/ أحمد منصور العربي، رئيس شركة إسكندرية لتداول الحاويات والبضائع؛ واللواء بحري/ محمد زكي، رئيس شركة المستودعات المصرية العامة؛ واللواء بحري/ منير أبوسمرة، رئيس الشركة المصرية للتوريدات والأشغال البحرية. وقام اللواء بحري/ نبيل حلمي، رئيس هيئة الميناء، بتكريم السادة رؤساء هيئة ميناء الإسكندرية الأسبقين، وهم: اللواء بحري/ هاني حسني، واللواء بحري/ صلاح مختار، واللواء بحري/ حسن حسني، واللواء بحري/ محمد فرج لطفي، واللواء بحري/ محمد يوسف؛ والسادة النواب السابقون وهم اللواء بحري/ حمدي مهدي، واللواء بحري/ أحمد جمال الدين مدكور، واللواء بحري/ مجدي العبد، واللواء بحري/ كامل النحته، واللواء بحري/ محسن محمد علي؛ والسادة رؤساء قطاع النقل البحري السابقون".

لن يختلف الوضع كثيراً في مجال الطيران المدني والمطارات الذي يحتله ضابط القوات الجوية، وقطاع الاتصالات والمعلومات الذي ينتشر فيه ضباط سلاح الإشارة، فضلا عن تعيين بعض كبار ضباط القوات الجوية وقوات الدفاع الجوي في السلك الدبلوماسي، بل إنك ستجد هيئة الآثار المصرية، والتي لا يخفى عليك تردّي أحوالها، يتم تعيين 88 لواءً سابقاً في وظائف قيادية فيها، وتتواصل المهزلة في وزارة البيئة التي ترصد الدراسة كيف احتل كبار الضباط المتقاعدين 35 منصباً من مراتبها العليا، فضلا عن وجود نحو 173 لواءً و30 عميداً وعقيداً، تم رصد شغلهم لمناصب رفيعة في وزارات الإسكان والنقل والصناعة والإعلام والبترول، وجميعهم يحصلون على أعلى المخصصات المادية التي تقدمها الدولة لمن يشغلون مناصبها الرفيعة، إلى درجة أن اللواء متقاعد محمد الكاشف الذي كان نائباً لإدارة مكافحة المخدرات المصرية يقول لبو ناصيف، في مقابلة أجراها معه، إن بعض الضباط الذين يشغلون مناصب غير عسكرية بعد التقاعد قد يصل مرتبهم الشهري إلى نصف مليون جنيه.

نكمل غداً بإذن الله

belalfadl@hotmail.com

 

 

 

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.