المصالحة المستحيلة في تونس

المصالحة المستحيلة في تونس

15 أكتوبر 2015

من مظاهرة في تونس ضد قانون المصالحة الاقتصادية (12سبتمبر/2015/Getty)

+ الخط -
المصالحة في مدونات اللغة هي المسالمة والمصافاة، وإزالة كل أسباب الخصام وإعادة تشكيل العلاقات والبنيات المجتمعية المرتجّة بعد إصلاحها، وهي، في جوهرها، قيمة أصلية، ومبدأ إنساني عريق.
لكن الزج بالمصطلح والفكرة في المجال السياسي التونسي، وفي سياقه التاريخي "الثوري"، يجعل منه محل خلاف واختلاف ومساءلة، بدلا من الاتفاق والمواءمة. وعندما نستعرض إرث المصالحة في التجربة السياسية التونسية المعاصرة، لا سيما منذ نهاية الاحتلال الفرنسي، وتولي الحبيب بورقيبة السلطة سنة 1956، رئيس حكومة في البداية ثم رئيس جمهورية بعد إزاحته الأمين باي آخر بايات تونس سنة 1957، وتغيير نموذج الحكم من نظام ملكي إلى آخر جمهوري، عندما نستعرض هذا الإرث، يفاجأ المرء بالحجم الهائل من المحاكمات السياسية والتصفيات الجسدية والإعدامات، وحتى الجرائم ضد الإنسانية. ولعلّ من أبرز تلك السياسات وأعمال التصفية ما نال رجال النظام الحسيني، وأسرة البايات الحاكمة من استيلاء على ثرواتهم، ومنعهم من مختلف الحقوق المدنية البسيطة، بما فيها حقّ أبنائهم في التعليم والدراسة، بعد إزاحتهم من كرسي الحكم.
وتذكر المصنّفات التاريخية التونسية ثلاث شرائح تعرّضت للتصفية الكاملة والتجريد من الحقوق السياسية والمكتسبات المادية والمالية، وحتى من الحق في الحياة إبّان فترة بداية دولة الاستقلال، وهي، على التوالي، رجال الحركة اليوسفية، الشق المقاوم في الحركة الوطنية، والحكومات المتعاقبة بين 1952 وإبريل/نيسان 1956 وخصوصاً المشاركين في حكومة صلاح الدين البكوش (1952 -1954)، وكذلك كل من محمد الصالح مزالي رئيس الحكومة (مارس/آذار 1954 – يوليو/تموز 1954) والطاهر بن عمار رئيس الحكومة (أغسطس/آب 1954 – إبريل/نيسان 1956) الذي قاد المفاوضات مع فرنسا، ووقّع اتفاقيتي الاستقلال الداخلي سنة 1955 والاستقلال التام في 20 مارس/آذار 1956.
كما شملت المحاكمات والتجريد من الممتلكات رجال الإدارة التونسية في العهد الاستعماري من قُياد وخلفوات وشيوخ ورجال المجلس الكبير، وهو مجلس تشريعي استشاري وغير منتخب. وسنت حكومة بورقيبة القانون عدد 13 لسنة 1957 المتعلق بالمكاسب غير المشروعة، بهدف التجريد من الممتلكات الذي حوكمت بمقتضاه تلك الفئات المذكورة سلفاً، في محكمة القضاء العليا، وهي محكمة استثنائية، لا تقوم على مبدأ الفصل بين السلطات، شكلتها الحكومة من نواب من الحزب الحر الدستوري الجديد الحاكم، في المجلس التأسيسي، يترأسهم قاض أو محام يعينه مجلس الوزراء.
وأكد القانون المذكور "ضرورة مراجعة الثروات التي جمعت بطريقة سريعة، وغالباً بصورة غير شريفة، وبانتهاك مضطرد لحرمة التراتيب الجاري بها العمل، أو بواسطة الاستبداد
بالسلطة أو استغلال المناصب النيابية، أو الوظائف، أو المكانة الشخصية الحقيقية أو المصطنعة". كما أقرّ القانون في فصله الثالث بمحاكمة الأشخاص الذين "يتبيّن أنهم قاموا، عن طواعية واختيار، بعمل مضاد لمصالح الوطن". وسمح، في فصله عدد 26، بإصدار أحكام بالتجريد من الحقوق القومية والمدنية.
وعلى الرغم من إقرار هذا القانون بأن الممتلكات والأموال المصادرة والمنتزعة ترجع إلى خزينة الدولة، فإن كثيراً من تلك الأملاك والأراضي والعقارات تحولت إلى ريعٍ وزعه الرئيس بورقيبة على المقرّبين منه من رجال حزبه، أو ممن كانوا في صفوف اليوسفية، وتحولوا في موقفهم إلى مؤيد للشق البورقيبي، المعروف بجماعة الديوان السياسي.
لا يجد منظرو ذلك النظام وأيديولوجيوه وأنصار البورقيبية والمستفيدون من دولتها حرجا في تبرير تلك السياسات التي اصطدمت مع كل القوى السياسية غير الدستورية، قبل أن تنتقل إلى داخل الحزب الحرّ الدستوري الجديد الحاكم نفسه، منذ نهاية الستينيات من القرن الماضي، مع محاكمات الوزير القوي أحمد بن صالح وما تلاها من إبعاد أحمد المستيري الملقب أب المعارضة التونسية، والتي نالت كذلك الباجي قائد السبسي طفل القصر المدلل آنذاك والرئيس الحالي، على خلفية حرب الخلافة على قصر قرطاج.
وتنبئنا الوثائق والأدلّة التاريخية القاطعة أن الرئيس بورقيبة صاحب التنشئة الفكرية الغربية وخرّيج جامعة السوربون الحامل قيمها السياسية الليبرالية القائمة على التعدد والتداول، كان أول رافضي فكرة المصالحة، بأنواعها ومضامينها الأيديولوجية والسياسية والاقتصادية. فقد أدرك الرجل كيف يقيم مُلكه ويثبّت سلطانه، بإدراك شروط اللعبة السياسية ومختلف حيثياتها القائمة على مفاهيم المكانة والدور التاريخي والثروات والإمكانات المادية.
كما التقط الرغبة الشعبية في ضرورة محاسبة قوى النظام القديم ورجاله الفاعلين، وتجريدهم من كل أدوات الفعل السياسي المؤثر، فلم يترك فرصة واحدة لتلك القوى والشخصيات الفاعلة لإعادة تنظيم نفسها، ومزاولة أي نشاط سياسي أو مدني، مهما كانت درجة محدوديته.
غاب هذا المنطق في الثورة التونسية الشعبية الوليدة والغضة والطرية، والتي غدرت بها النخب الفكرية والسياسية التي لم تستطع التخلص من طبيعتها المخزنية، ومن انتهاجها الموالاة والتبعية لمن هو في سدّة الحكم. وقد أدرك هذا الأمر رجال النظام القديم الذي أطيحت قيادته ومؤسساته التشريعية، وأطيح دستوره أيضاً، بعد 14 يناير/كانون الثاني 2011 الذي بقي متحصناً بمفاصل الدولة الإدارية والإعلامية، ومهيمناً على مقدراتها المالية وثرواتها الاقتصادية موضوع النقاش العام اليوم. لقد أدركوا كذلك أن العودة من النوافذ والشبابيك، وحتى من الأبواب التي تُركت مفتوحة على مصراعيها بدون أدنى حراسة، كانت ممكنة ومتاحة في ظل ثورة بدون قيادة وبدون حزب أو أحزاب ثورية، بعد أن تمّ الالتفاف السريع على جبهة 14 يناير/كانون الثاني 2011، وإجهاض تجربة المجلس الوطني لحماية الثورة.
لن نخوض في كيفية عودة هذا النظام إلى الموقع القيادي في الحكم، فهذا أمر سيحيد بنا عن
فهم فكرة المصالحة وتفكيك شيفرتها والوقوف عند مأزقها الذي تردّت فيه، الدائر حولها الجدل في أوساط النخبة الفكرية والسياسية، كما هو الأمر في الأوساط الشعبية. ولكن، وجب التذكير بأن قوى النظام القديم التي شرعت، أخيراً، في رفع قضية نقض ضد حكم المحكمة بحل التجمع الدستوري الديمقراطي سنة 2011، نجحت في ضرب أحد أهم القوانين التي كانت ستحرمها من العودة إلى مركز السلطة وسن القوانين ووضع السياسات وفق مصالحها القديمة المتجددة. والمقصود هو قانون تحصين الثورة الذي اقترحته بعض الأحزاب في المجلس الوطني التأسيسي، والتقت القوى الإسلامية واليسارية اللائكية في رفضه. وكانت حجّتهم الرئيسية في ذلك أن المحاسبة على الجرائم السياسية والاقتصادية والمالية والانتهاكات الجسدية وقضايا التعذيب والقتل والتصفية مواضيع متروكة لهيئة الحقيقة والكرامة ولمسار العدالة الانتقالية التي فُصل فيها القول وحُسم.
وبمجرّد الوصول إلى السلطة بعد انتخابات 26 نوفمبر/تشرين الثاني التشريعية، و21 ديسمبر/كانون الأول الرئاسية لسنة 2014 وقع التنكّر لهذا التمشي الانتقالي الوارد في الأحكام الانتقالية للدستور التونسي لسنة 2014، والمرسوم الأهداف والمسارات، وفق قانون العدالة الانتقالية عدد 53 لسنة 2013 المؤرخ في 24 ديسمبر/كانون الأول من السنة نفسها. وبدلا من ذلك، أو بالتوازي معه، أصدر رئيس الجمهورية، الباجي قائد السبسي، الذي يمكّنه دستور تونس الجديد من المبادرة التشريعية، القانون الأساسي المتعلق بإجراءات خاصة بالمصالحة في المجال الاقتصادي، المكوّن من 12 فصلا. وعلى الرغم من أن الهدف من هذا القانون، حسب فصله الأول "إقرار تدابير خاصة بالانتهاكات المتعلقة بالفساد المالي والاعتداء على المال العام"، فإن مجمل الفصول الأخرى وروح القانون برمته تأتي متناقضة مع هذه الفقرة، فهو سيؤدي إلى إجهاض مسار العدالة الانتقالية وقانونها الذي ينص، في فصله الثامن، على أن جرائم الاعتداء على المال العام والفساد المالي تتعهدها دوائر قضائية متخصصة، تُحدّث للغرض. في حين أن القانون المقترح ينص صراحة على: "تتوقف التتبعات والمحاكمات، وتسقط العقوبات، في حق الموظفين العموميين وأشباههم، من أجل أفعال تتعلق بالفساد المالي والاعتداء على المال العام، باستثناء المتعلقة بالرشوة وبالاستيلاء على الأموال العمومية".
ويعطينا هذا الفصل فكرة عن الغاية من سن هذا القانون، فهو سيبرّئ من ارتكب جرائم فساد إداري ومالي في حق دافعي الضرائب أصحاب المال العام، أي الشعب برمته، ناهيك أن بقية الفصول لا تفرض على ناهبي المال العمومي، والمستولين على الأموال من البنوك في شكل قروض بدون ضمانات حقيقية، أي إجراءات زجرية لإعادة الأموال للدولة.
وبدلا من هيئة الحقيقة والكرامة التي ستتولى البحث في مثل تلك الجرائم المالية، وتحويل ملفات أصحابها إلى الدوائر القضائية المختصة للمحاسبة، وإرجاع المال العام قبل المصالحة، فإن نص القانون يقترح لجنة حكومية، تضم ممثلين عن رئاسة الحكومة ووزارات العدل والمالية والتنمية والمكلف العام بنزاعات الدولة وعضوين عن هيئة الحقيقة والكرامة، وظيفتها إجراء صلح مع رجال الأعمال وأصحاب المال، ممن مُكّنوا من الأموال العمومية، ولم يرجعوها، لتسديد ما يرونه مرضيا لهم، أما إذا رفضوا التسديد فلا شيء في القانون يجبرهم على ذلك، من قبيل تمرير ملفات فسادهم إلى القضاء.
ولا بد من الإشارة، في هذا الإطار، إلى أن محافظ البنك المركزي التونسي أفاد، في شهادة له أمام المجلس الوطني التأسيسي يوم 10 مارس/آذار 2014، بأن الأموال التي تحصّل عليها رجال أعمال بدون ضمانات ولم يرجعوها طوال فترة حكم بن علي، والى حدود 6 مارس/آذار 2014 تقدّر ب 12.5 مليار دينار تونسي، أي ما يقارب نصف موازنة الدولة التونسية.
ويشير تقرير صادر عن معهد بحوث الاقتصاد السياسي في جامعة ماساشوسوتس الأميركية
سنة 2012 بعنوان الأموال المهرّبة من بلدان شمال أفريقيا إلى خسارة تونس في شكل أموال مهرّبة إلى الخارج 33.9 مليار دولار، في عهد بن علي، أي بمعدل 1.5 مليار دولار في السنة، مقابل 905 ملايين دولار في عهد الرئيس بورقيبة، بمعدل 278 مليون دولار في السنة. وكانت هذه الأموال تقتطع من القروض التي تحصل عليها تونس من مؤسسات مالية دولية، وكانت تهرّب إلى بلدان أفريقيا جنوب الصحراء. وكل هذا المال الذي نهبه رجال أعمال، والمصنف ديوناً متفحمة حسب الإيتيمولوجيا المالية، وكذلك المال المهرّب إلى الخارج، يمكن أن تغطي مبالغه الديون التونسية المقدّرة 40 مليار دولار.
ويمكن أن تفسر هذه الأحجام الكبيرة من أموال الدولة التونسية المنهوبة سبب الغضب الشعبي للقانون الذي اقترحه رئيس الجمهورية، ورد الفعل الذي وصل إلى حدّ النزول إلى الشارع، بعد أن التقت في ذلك أحزاب سياسية وقوى المجتمع المدني التقليدية ومنظماته الفاعلة، وتشكّل حملة شبابية بدأت بالفضاء الافتراضي، وانتقلت إلى الشوارع، هي حملة "ما نيش مسامح".
في مقابل ذلك، وجد الائتلاف الحكومي، وخصوصاً حزب نداء تونس الحاكم الأغلبي صاحب مشروع القانون، نفسه في موقع المدافع عن مشروع وُصف بتبييض الفساد والمفسدين وسرّاق المال العام، مُتهما من الحملة المناهضة له بأنه يردّ الجميل لمن موّل حملته الانتخابية التي أوصلته إلى السلطة.
وقد يصمد هذا القانون الذي تعمّق النقاش حوله رفضاً وقبولاً، وهو سيحظى، من دون شكّ، بدعم أحزاب الأغلبية (الحاكمة) في مجلس نواب الشعب، لكنه لن يمكّن الدولة من استرجاع أموالها المنهوبة، لفقدانه المبادئ الجدية والآلية الناجعة التي تمكّن من ذلك. ولن يحقق المصالحة المزعومة، فجرح الاستبداد والفساد ونهب المال العام الذي خلّفه النظام السابق لا يزال غائراً، ولا يمكن أن تزول آثاره بمثل هذه القوانين المضللة والمزيّفة للوعي العام.