البرزاني وتقويض البيت الكردي

البرزاني وتقويض البيت الكردي

14 أكتوبر 2015

البرزاني يريد الترشح لولاية ثالثة بما يخالف الدستور (6أبريل/2015/Getty)

+ الخط -
ليست مشاهد الصراع بين المكونات السياسية والعشائرية الكردية في العراق وليدة اليوم، أو نتيجة إصرار رئيس إقليم كردستان المنتهية صلاحياته، مسعود البرزاني، على البقاء في السلطة؛ فقد شهدت كردستان العراق حروباً عديدة بين الفصائل الكردية، من أبرزها بين الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني. وأظهرت هذه الحروب، إضافة إلى القتلى والجرحى الكثيرين، تحالفات إقليمية كردية إيرانية وسورية وتركية، أو دولية مع دول كثيرة، كالاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة وفرنسا وإيران وتركيا وإسرائيل وغيرها، إضافة إلى حكومة المركز في بغداد. وفي 1998، وبإشراف وسعي مباشر من الولايات المتحدة، وتمهيداً لحشد القوى العراقية المعارضة من أجل إسقاط النظام في بغداد، تم جمع الطرفين على طاولة واحدة في واشنطن، ووقعا على تفاصيل التزامات رئيسية، أهمها إنهاء حالة الاقتتال المزمن بين الفصيلين، وتوحيد الإقليم، وجعل أربيل عاصمة له.
وعلى الرغم من حالة الاستقرار التي عاشها إقليم كردستان منذ عام 2003، إلا أن عقد الصراع بين الحزبين (الاتحاد الوطني والديمقراطي) لم تُستأصل، فقد بقيت السليمانية (بيت) الاتحاد الوطني الكردستاني ورئيسه جلال طالباني، وأربيل (حاضنة) الحزب الديمقراطي الكردستاني ورئيسه مسعود البرزاني. وسعى الفريقان في 13عاماً الماضية إلى ترسيخ قوتهم في مناطق نفوذهم، فكان لكل محافظة هيكلها التنظيمي وقوات الأمن الخاصة بها، مع وجود رئاسة الإقليم واجهة سياسية رسمية متفق عليها للتعامل مع بغداد، ولترسيخ العلاقات الخارجية السياسية والاقتصادية مع الدول الأخرى.
ومع حالة الاستقرار و(الديمقراطية) المفترضة في الإقليم، نشأت، في ظل الأحزاب الكبيرة، أحزاب أخرى، من أهمها حركة التغيير برئاسة، نوشيران مصطفى، وحزبا الجماعة والاتحاد الإسلاميان، وباتت مجتمعة تسمى (الأحزاب الخمسة)، وهي التي تتحكم في البرلمان الكردي بشكل كبير.
يواجه إقليم كردستان، اليوم، تهديداً خطيراً لوجوده ولمستقبله السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وبسبب إصرار البرزاني على تولي فترة رئاسية ثالثة (انتهت ولايته في 19 أغسطس/آب الماضي)، مخالفاً بذلك دستور كردستان العراق، والذي كان هو أحد مهندسيه، فقد أدخل الأقليم في أتون فوضى سياسية، تحتمل كل الافتراضات. وعلى الرغم من الاجتماعات المتتالية والاقتراحات المتواصلة للأحزاب الكردية في الإقليم، إلا أن الأمور بقيت على حالها، وزادتها سوءاً الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية، وتدهور الواردات نتيجة انخفاض أسعار النفط، وقد سبقها آنفاً تراجع إقبال المستثمرين على الاستثمار في كردستان العراق منذ أكثر من عام ونصف.
باستثناء الحزب الديمقراطي الكردستاني، طرحت الأحزاب الأربعة، "التغيير" و"الاتحاد
الوطني" و"الجماعة الإسلامية" و"الاتحاد الإسلامي"، خيارين لمعالجة أزمة رئاسة الإقليم؛ انتخاب الرئيس من الشعب مباشرة، على أن تكون سلطاته شرفية وقليلة، أو أن يختاره البرلمان، وتكون سلطاته أكبر. وهددت هذه الأحزاب بـ"موقف حاسم" في حال رفض حزب مسعود البرزاني، وذلك بطرح مرشح لرئاسة الإقليم وعرضه على برلمان الإقليم للتصويت عليه.
وعلى الرغم من أن المرشحين من الشخصيات النافذة والمعروفة في الوسط السياسي الكردي، كالسياسي، برهم صالح، عن حزب الاتحاد الوطني، وعلي بابير رئيس الجماعة الإسلامية، وإضافة إلى ثلاثة آخرين، وعلى الرغم من ترحيب الحزب الديمقراطي بهم، وقول القيادي فيه، سربست لازكين، إن حزبه سيرحب بالمرشح لرئاسة الإقليم، إذا ما اتفقت عليه الأحزاب الأربعة، وستبارك له المنصب إذا ما فاز بالانتخابات الرئاسية، على الرغم من ذلك، فإن واقع الحال مغايرٌ تماماً؛ فما زال البرزاني يأمل البقاء رئيساً، وذلك بالحوارات مع خصومه، وبأساليب بين الترهيب والترغيب تعتمد تخويف المجتمع الكردي من أعداء يتربصون بهم، في حال تغييره برئيس جديد، أولهم المكون العربي في العراق، ثم خطر تنظيم الدولة الإسلامية المحادد للإقليم، وأخيراً حالة الرخاء الاستثماري الذي يراهن على تراجعه.
ومع اضطراب الحالة في محافظة السليمانية تحديداً، وخروج التظاهرات الشعبية المطالبة، بدايةً، بصرف رواتب الموظفين الذين لم يتقاضوها منذ ثلاثة أشهر، وكذلك القضاء على الفساد في هيكلية إدارة الإقليم، ثم ما لبثت أن تحولت إلى شعار مركزي، هو "ارحل برزاني"، فقد اتهم الحزب الديمقراطي الذي استهدفت مقرّات له في السليمانية حركة التغيير بالمسؤولية عن التظاهرات والأعمال التخريبية، وقال بيان للمكتب السياسي للحزب، بعد اجتماعه بقيادة البرزاني، إن "المظاهرات لم تكن عفوية، بل كانت مخططة مسبقاً لتخريب الوضع ومهاجمة مقراتنا، في وقت يسّخر فيه الحزب كل طاقاته للدفاع عن كردستان بوجه داعش". وهدد البيان رئيس حركة التغيير، نوشيران مصطفى، باعتباره المسؤول الأول عن هذا التوتر والتخريب، وقال "سيكون لدينا الرد المناسب عليها، وسيدفع المتآمرون بالتأكيد ضريبة هذه الاعتداءات".
تذهب الأمور بسرعة نحو فك الشراكة بين الأحزاب الكردية، وخصوصاً الاتحاد الوطني والديمقراطي، ولعل الرغبة الجامحة لمسعود البرزاني في البقاء على كرسي حكم الإقليم دورة جديدة (غير دستورية) سيكون القشة التي ستقصم بنود الاتفاق الموقع بينهما في واشنطن عام 1998. ومن تحليل الأحداث، وكذلك ردة فعل البرزاني وحزبه، تتضح صورة الصدام المقبل، واحتمال انفصال السليمانية عن الإقليم، الأمر الذي يعتبره البرزاني "أضغاث أحلام". وفي بيانه عقب تكرار الهجوم على مقراته في السليمانية، قال (الديمقراطي) "كخطوة أولى، يعتبر الحزب نفسه في حل من الاتفاقيات التي شكلت بموجبها حكومة الإقليم ورئاسة برلمان كردستان، ومشاركة طاقم نوشيروان فيها".
ويعتبر حزب الاتحاد الوطني الذراع السياسية والميدانية لإيران، فقد احتفظ زعيمه، جلال
طالباني، منذ البداية، بعلاقات مصيرية معها، وقد اتهمته سلطات نظام صدام حسين بالخيانة العظمى بسبب تعاونه المطلق معها، في أثناء الحرب العراقية الإيرانية خصوصاً. ومنذ عام 2003، تراقب إيران التطور في آليات بناء إقليم كردستان، بقيادة مسعود برزاني، بالشكل الذي بات الإقليم فيه نموذجاً فريداً في سرعة النهوض والبناء والرخاء والاستقرار. ولأن الأكراد بالنسبة لنظام طهران موضوع حساس جداً، حرص الإيرانيون على تغذية روح الاختلاف بين الفرقاء السياسيين في إقليم كردستان، في محاولة منها لتشويه النموذج الذي يمكن أن يطالب به أكرادها وتمزيق كيانه، وهو ما أكده عضو كتلة "التغيير" الكردية، أمين بكر: "إن السليمانية تتجه، الآن، وفق المعطيات الواقعية إلى تشكيل إقليم منفرد، بدعم من الحكومة الإيرانية".
ولم يكن مسعود البرزاني صاحب موقف واضح وحاسم بشأن حزب العمال الكردستاني التركي، فقد وافق على استضافة قيادات وفصائل مسلحة عنده، وناكف أنقرة كثيراً في موضوع استهداف الطائرات التركية مراراً مقرّات هذا الحزب داخل أراضي الإقليم، كما أنه لم يعتبر الحزب إرهابياً، بحسب توصيف الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، والبيت الأبيض وأطراف أخرى. وهذا كله يعني موقفاً تركياً من البرزاني، ربما يترجم إلى إشاعة إرباك سياسي وأمني، يُفضي إلى تفكك البيت الكردي إلى غرف صغيرة غير متناغمة. كما أن إيران لا ترحب ببقاء البرزاني على قمة هرم إقليم كردستان العراق، لأسباب عديدة، منها تطبيع علاقات الإقليم مع تركيا، وسعيه إلى إعلان الانفصال عن العراق وتأسيس دولة كردية، إضافة إلى فتح أرض إقليم كردستان وسمائه لقوى غربية كثيرة، منها قواعد عسكرية أميركية وبريطانية وألمانية، ومراكز تنصت واتصالات متقدمة إسرائيلية (بحسب طهران).
لم يكن أحد في العراق يريد للنموذج الكردي أن يكبو، كما لم يكن أي عراقي راضياً عن انفصال الإقليم. فرح الجميع بتطور مستوى المعيشة والبناء فيه. ولكن، يبدو أن خراب البيت الكردي سيأتي من أهل البيت أنفسهم، فمسعود البرزاني حمل أول معاول الهدم، بإصراره الغريب على البقاء رئيساً للإقليم، وبشكل غير قانوني، ثم حمل حزبا التغيير والاتحاد معاول أخرى، تحاول أن تفرض بهما أمراً واقعاً، يفضي، فيما يفضي، إلى الانفصال عن سلطة مركز الإقليم، وإنشاء إقليم جديد، يمتد بحدوده ونظامه السياسي والاقتصادي والعقائدي إلى داخل العمق الإيراني. أما الحزبان الإسلاميان فهما موجودان قبل خراب البيت وبعده، لأن كل حزب يرجع، في تأسيسه، إلى إحدى محافظتي الصراع، السليمانية وأربيل.
يرتبط الحل المنقذ لإقليم كردستان، بدرجة كبيرة جداً، بحكمة مفترضة لرئيسه المنتهية صلاحياته، مسعود البرزاني. وعليه أن يهيئ، وهو يرأس حزباً تاريخياً قوياً، خليفة له بدل الإصرار على موقفه. يجب أن يفعل ذلك، من أجل أن يبقى الإقليم موحداً وقائماً، فإنْ لم يكن من أجل هذا السبب، فليكن من أجل تاريخه وتاريخ عائلته، ولا يجب أن يُنسى أبداً أن النهي عن خلقٍ والإتيان بمثله مسألة غير حميدة البتة.

F51601CD-AABE-44C5-B957-606753EEC195
فارس الخطاب

كاتب عراقي مقيم في لندن