عن الحوار والأديان والأنبياء

عن الحوار والأديان والأنبياء

27 يناير 2015

مسيرة في لاهور تندد بالرسوم المسيئة للنبي (يناير/2015/Getty)

+ الخط -

هل سيكون الغرب دار الحوار بين اليهودية والإسلام، بعد كل العمليات الدموية التي وقعت في بلدانه، وتكون أفريقيا فضاء الحوار الدامي بين المسيحية والإسلام، بعد العمليات التي استهدفت وتستهدف أتباع سيدنا عيسى عليه السلام، في هذه البقعة المتضاربة جغرافياً وإثنياً وعرقياً وثقافياً، لكنها، كأي قارة مكونة من قارتين دينيتين، تبدو وكأنها خارجة من سديم التاريخ، تلتقي بنفسها حول مقبرة وتتيح، يا للمفارقة، الحوار بعد تحرير العقيدتين من لاوعيهما التاريخي الحارق والكامن في الشرق؟

في الشرق، يصعب، الآن، الحديث عن أي حوار بين اليهودية والإسلام، للأسباب السياسية الراهنة التي نعرفها، والسبب الرئيس فيها هو السعي الصهيوني إلى تحويل الديانة الموسوية إلى مبرر لوجود كيان الدولة المحتلة، والسعي المحموم، من أجل أن يصبح الطابع الديني للدولة نهائياً، وهذا يعني أن التقتيل الذي تمارسه الصهيونية بآلة جيشها "تساحال" سيحسب، عن حق أو باطل، على أتباع الديانة اليهودية، حتى ولو كان منهم من يعارض إسرائيل، ومن يعارض الصهيونية وكيانها الاستعماري.

الأمر يعني أن الاحتلال أخرج التوحيد الذي يجمع بين الديانتين من جغرافيا النبوة الأولى، وطوّح به إلى تحولات الخارطة الجديدة في الغرب، حتى استحال الحديث بين نبيين.

في الغرب، ولا سيما فرنسا وبلجيكا، البلدين اللذين يعيشان تجربتين مختلفتين في العلمانية والعلاقة مع التدين الإسلامي، تقع المواجهة، منذ مدة، بين التطرف الديني، بلفحته الجهادية المتطرفة واليهودية، كديانة في بلاد مبنية على المواطنة. وغالباً ما يكون العقاب المتشدد لليهود بسبب سياسة يقوم بها نظريا ساسة ليسوا دعاة، ولا أحباراً، ولا قادة التدين اليهودي في الغرب، أو في غيره.

ويتضح من سلسلة العمليات التي شهدتها بلجيكا، لعل أشهرها عملية السبت 24 مايو/أيار 2014 ضد المتحف اليهودي، أن التوجه الساعي إليه الجهاديون هو قتل اليهود كيهود، وليس كمواطنين بلجيكيين، والأمر نفسه عند الحديث عن العمليات التي تقع في فرنسا، ومنذ سنتين أو ثلاث بالتحديد، وأشهرها قضية محمد مراح الذي قتل ثلاثة أطفال يهود ورب أسرة أمام مدرسة دينية، تكون النتيجة تطوير الفوبيا ضد المسلمين وتبرير رحيل اليهود الغربيين إلى إسرائيل. ما يزيد من إضعاف المسلمين المعتدلين، والمندمجين والمتنورين في الصراع الدائر. ومن هنا، تكون إمكانية الحوار بين الإسلام واليهودية ممكنة في الغرب، كما وقع منذ الهجوم على "شارلي إيبدو"، ويمكن القول إن لحوار دليل بوبكر، المشرف العام على المسجد الكبير في باريس، وبيرنار كانوفيتش عضو المكتب التمثيلي للمنظمات اليهودية في فرنسا، عمقاً استراتيجياً في اللحظة الراهنة، والتي ستليها، لأنه حوار أفضى إلى اتفاق على أن تعبئة المفكرين والحوار هو الكفيل بأن ينزع الفتيل، ويسمح بتوجه يحترم الديانة على حساب السياسة، إنه لاهوت تحرير جديد، يعيد الكلمة إلى الأنبياء، بعد أن سرقها منهم الساسة والدعاة وجنرالات الحرب والاحتلال.

ليس الغرب هو مكان فك الاستحالة عن حوار الأديان المتوسطية والمشرقية في المنبع، بل أفريقيا أيضاً.

بعد أن اقترحنا مائدة للتفاوض الفكري بين نبيين من أنبياء التوحيد الشرقي، يمكن أن تقام مائدة أخرى بين نبيين آخرين، حول الدم الأفريقي، لنعترف أن أفريقيا غير الغرب، ليست مثقلة بعقدة الضمير إزاء الإسلام والمسلمين. فهي لم تساعد أحداً علينا، ولم تدفع جيوشاً ضدنا، ولم تفكر سوى في عسكرها وقبائلها، لكنها اليوم وجهة تسديد للقتل، باسم ديننا الحنيف، حتى لم يعد للمسيحي الأفريقي رب نحسده عليه، فهو، بفقره العميق، يتعرض باسم الله تعالى وباسم النبي الكريم، لحرق كنائسه، ولحد الساعة، لا أحد منا تساءل: لماذا تحرق الكنائس ويقتل الأفارقة المسيحيون بذنب ارتكبه أناسٌ، لا علاقة لهم بهم، ويدفعون الثمن، والعلاقة، ربما، بينهم وبين الغرب المسيحي هي علاقة الأسماك بالطيران.

لا أحد، في هذه الأمة الشاسعة، غضب، لأن مسلمين يقتلون مسيحيين لا علاقة لهم "بشارلي إيبدو"، ولا علاقة لهم بالرسوم التي أساءت للنبي الكريم، ولا علاقة لهم بالتقتيل الإسرائيلي عندما سنفكر: لماذا يؤدي فقير في أفريقيا ثمن الخطأ الذي يقترفه رسام كاريكاتور أو مؤسسة عسكرية في الغرب الإمبريالي؟

وقتها، ربما سيمكننا أن نقيم شروط الحوار العقلاني مع المسيحية، بدون اللهب المتطاير الآن من شرق الشرق. سنحرر الأنبياء من الجهل الذي يرتكب ضدهم، ببراءة الدم الأفريقي، وسنسهل السؤال المركب، كيف نفكر اليوم في العلاقة بين الدينين، بعيداً عن حريق الشمال الذي يصيب المتوسط، وبعيداً عن الخطة الجهنمية لإفراغ الشرق من أتباع أيقونته، سيدنا عيسي عليه السلام؟

علينا أن نستعيد النبي محمد، كما كان في اللحظة التي استقبل فيها نصارى نجران، ومنهم قسيسون رهبان، وفي القرآن الكريم "ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى".

يريد المسلمون الذين يسعون إلى التحكم السياسي في عاطفة إخوانهم المسلمين، تعطيل العقل، العقل الذي ذكر في القرآن 49 مرة، الذي يميز بين العاطفة والاستعمال السياسوي لها، وبين القتل والجهالة، بين الإيمان والتعصب. العقل الذي نتفكر به القرآن يقول لنا إن المسيح ذكر 11 مرة، وعيسى ذكر 25، وإن النبي الكريم الذي نرجو شفاعته في العقل قبل الآخرة ذكر 4 مرات فقط.

علينا أن نفكر بنقد ذاتي، كما يحاسب العقل الأوروبي نفسه الآن، على الرغم من مرجعيته اليهودية المسيحية، فهذا العقل الأوروبي اللائكي، والمتشكك دوماً، لم يعف نفسه من التفكير، ونحن الذي رفع كتابنا العقل إلى أعلى عليين، علينا أن نشحذ ما فينا من تفكير لكي نجد طاولة، في الغرب أو في أفريقيا، يجتمع حولها الأنبياء الثلاثة، لإنقاذنا من الجنون العقدي.

768EA96E-E08E-4A79-B950-D8980EE5911C
عبد الحميد اجماهيري

كاتب وشاعر وصحفي مغربي، مدير تحرير صحيفة الاتحاد المغربية، مواليد 1963، عمل في صحيفتين بالفرنسية، من كتبه "أوفقير .. العائلة والدم.. عن انقلاب 1972"، ترجم كتابا عن معتقل تازمامارت. مسوول في فدرالية الناشرين المغاربة.