معذرة أفريقيا

معذرة أفريقيا

24 يناير 2015

إفريقيا .. قصة العبودية تروى وتعاد (Getty)

+ الخط -
الرِّقّ، ويا للعجب، من ابتكار الإنسان المتحضر، وليس من صنع الإنسان الهمجي. فالمجتمعات البدائية لم تعرف الاسترقاق قط، وإنما عرفتها المجتمعات المدينية. حتى مدينة بغداد بُنيت بسواعد العبيد الأفارقة، فقد "كان عبدالله بن سعد، والي عثمان بن عفان على مصر، يبعث المسلمين في جرائد الخيل، يغيرون على أطراف أفريقيا فيصيبون كثيراً من الأنفس والأموال". ولم يكتف أجدادنا العرب بالرقيق الأسود، بل استرقوا الأروام، كالبلقانيين والصقالبة (أهل بلغاريا) والأرمن والروس. ولعل كلمة slave (عبد) جاءت من الشعوب السلافية المسترقّة. ولا ريب أن العبودية كانت واحدة من أكثر مآسي التاريخ البشري بشاعة وانحطاطاً. وللأسف، فإن بعض العرب الذين جعلوا من المتاجرة بالأفارقة السود مهنة رابحة في الماضي، أسهموا في هذه المأساة الإنسانية بنصيب وافر، وها هو الاسترقاق يعود مجدداً مع "داعش" وأضرابها في العراق والشام.
قصة العبودية جديرة بأن تُروى وتُعاد، اقتباساً للشحنة الإنسانية الكامنة فيها. أما فصولها الأولى فكانت تبدأ من أدغال أفريقيا التي ينتشر في أحضانها بشرٌ وادعون، يعيشون بأمان وحرية وحبور. وكان التجار المسلّحون يطاردون هؤلاء البشر، فيقتلون مَن يحاول الهرب، ويلقون القبض على مَن قلّت حيلتُه. وحينما يجمع التجار ما يكفي من الأسرى، يبدأون رحلة العودة إلى زنجبار، مثلاً، وهم يسوقون قافلة بشرية باكية متألمة، فيُربط "العبيد" في صفوف طويلة، وتوضع رقابهم في أنيار خشبية، كما توضع سلاسل الحديد حول كواحل أرجلهم. ولأن تجارة "العبيد" مرتبطة بتجارة العاج، فقد كان على "العبد" حمل قرون العاج، في أثناء سيره المنهك الطويل. وكانت النساء يحملن أطفالهن، ويُرغمن على حمل العاج أيضاً. فإذا عجزت المرأة عن حمل الطفل والعاج معاً، يُقتل الطفل أو يترك على الطريق. وإذا عجز "عبد" عن متابعة السير، يُقتل ويترك طعاماً للضباع والنسور. وبعد مسيرة أسابيع، تصل القوافل إلى الساحل. وهناك، يجري تحميل "العبيد"، فيحشرون في جوف المركب على رفوف من الخيزران، لا يرتفع الواحد عن الآخر أكثر من متر واحد. وفي أثناء الإبحار، لا يتورع التجار عن إلقاء كل من يصاب بالمرض في البحر. وبوصول الرقيق إلى زنجبار، يكون هؤلاء جميعاً في حال من الإعياء الشديد وتشنج الأرجل، ويحتاجون إلى أسبوع، بعد النزول إلى البر، لمد أرجلهم بشكل مستقيم. وبما أن تجار "العبيد" يدفعون رسوماً للسلطات المحلية، فقد كان التجار يلقون بالعبيد المشكوك في قدرتهم على الحياة في البحر، ومَن يبقى منهم، أخيراً، يُباع لأصحاب المزارع في زنجبار وعُمان والجزيرة العربية.
هذه هي، باختصار، قصة رحلة واحدة من رحلات صيد "العبيد" في أفريقيا، وإنه لعار كبير يجلل الإنسانية كلها، بمن في ذلك نحن العرب، لأننا، بهذه "الأخلاق" الهمجية، دمرنا قارة بأكملها، وأبدنا الملايين من أبنائها، واستعبدنا ما بقي من هذا الشعب المظلوم. ولعل أغاني السود في أميركا أفضل ينبوع لفهم تاريخهم الباكي. فأغاني السود، في الأساس، هي أغاني المرح واللهو. لكن، مع تحولهم قسراً إلى العبودية، صارت أغانيهم حزينة. وهكذا، نشأت موسيقى "البلوز" الباكية والشاكية، بعد قوانين منع الرق في زمن أبراهام لينكولن عام 1863، ثم أغاني "الجاز" الصاخبة المتمردة والمرحة معاً، ثم "السول"، وهي نوع من الرجاء الديني والخلاص الروحاني. ومن أغاني النساء السوداوات التي تعبر عن الألم والحرقة والعذاب، أغنية تقول: "كُنت ألعب في الغابة، وجاء البيض وأخذوني. وعندما أكبر سأعود إلى الغابة"؛ وأخرى تقول: "لديَّ عذابان: عذاب الحقول وعذاب البيوت"؛ أو "أنجبت ثلاثة عشر بنتاً وصبياً، كلهم باعوهم عبيداً... لم يبق معي إلا الله"؛ أو "قالوا أنتِ امرأة ولا حقوق لك، لأن المسيح لم يكن امرأة. أَليست أم المسيح امرأة".
معذرة يا أفريقيا!

دلالات