خرافة بروتوكولات حكماء صهيون

خرافة بروتوكولات حكماء صهيون

15 يناير 2015

من صفحات "بروتوكولات حكماء صهيون" 1935 (Getty)

+ الخط -
لعلّ المناظرة التي جرت مع الأستاذ مأمون كيوان على صفحات "العربي الجديد" (13 و17 و24/11/2014)، في شأن "نداء نابليون" المزعوم لليهود، وفي شأن كتابة التاريخ واعتماد مناهج التحقق العلمي ونقد النصوص، لا نقل الأخبار شفاهية، ثم تمحيص الزائف من الصحيح، استناداً إلى الوثيقة والنقش والخبر المبرم، لعلّها تمكَّنَتْ من أمر واحد مهم، هو أنها فتحت الأذهان على قضايا شائعة كثيرة في الكتابات العربية عن اليهود، وعن الأوهام المستقرة لدى كُتّاب عربٍ كثيرين، تعوزهم ملكة البحث وحنكة التقصّي، ويستسهلون النقل من أي مصدر حتى لو كان مبتذلاً. ومن أعظم المصائب التي حلّت بنا أن يكون بعض المشتغلين بقضايا التاريخ أول مَن يتنكر للمبادئ البسيطة في هذا العلم الإنساني، حين يطمئنون اطمئنان البلاهة لما هم عليه من سكون في معارفهم الموروثة الساذجة، ومن استقرار للخرافات في عقولهم، علاوة على قلّة الدراية في البحث العلمي. وحيال هذا العياء في الكتابات التاريخية العربية، خاصة في شأن اليهود، صار لا بد لمَن ثارت في نفسه حَمِيةُ العلم أن ينبري إلى تصحيح المفاهيم المغلوطة والموروثات الشائعة والجارية.

وأحسبُ أن على الباحث الجاد ألا يترك باباً موصداً، إلا حاول فتح مصراعيه، وألا يترك مفهوماً مستقراً إلا شكك في استقراره، والقصد دائماً هو المعرفة. والبحث عن المعرفة غايتنا ومتعتنا المعرفية، والنقد العلمي هو ما يقوِّم آراءنا ويصحّح أغلاطنا، أما السجال فهو ينير الزوايا الظليلة في معارفنا. وعلى هذه الرؤية، نتصدى للكلام على خرافة بروتوكولات حكماء صهيون.

حكاية البدايات
مثل أي "وثيقة" سرية، أو نص غامض، فإن حكاية البدايات تكتنفها دائماً سرديات تلائم ذلك الغموض. وتتراكم الحكايات وتتداخل، حتى يصبح تسريح خيوطها المتشابكة أمراً صعباً. ومن الحكايات الرائجة أن البروتوكولات كُتبت في سنة 1897 في مدينة بازل في سويسرا، وأن تيودور هيرتزل تلاها على المؤتمر الصهيوني الأول. وثمة مَن يروي أن الكاتب الأصلي للبروتوكولات هو ماثيو غولوفينسكي الذي كتبها بين 1903 و1905، وكان مقرَّباً من القيصر الروسي نيقولا الثاني. والحقيقة أن هذه البروتوكولات ظهرت في الحقبة التي أعقبت قضية الضابط الفرنسي اليهودي درايفوس سنة 1894، وبعد المؤتمر الصهيوني الأول في 1897، فجرى الربط بين هاتين الواقعتين والبروتوكولات، وساهم هذا الربط في انتشار البروتوكولات وتصديقها. ومن رواياتٍ تتضمن جانباً كبيراً من الحقيقة أن هذه البروتوكولات ليست وثيقة يهودية على الإطلاق، إنما هي وثيقة روسية معادية لليهود، نشرها أول مرة في سنة 1905 باللغة الروسية، كاتب روسي يدعى سيرغي نيلوس، ادعى أنه تسلّم المخطوط في سنة 1901 من صديق له حصل عليه من مدام (ك)، التي ادعت أنها سرقته من أحد أقطاب الماسون في فرنسا. ثم عاد سيرغي نيلوس إلى القول إن هذه المرأة المجهولة حصلت على المخطوط من رئيس البوليس السري الروسي في فرنسا، وسرقه هذا الأخير من أرشيف المحفل الماسوني.
ومهما يكن الأمر، صدرت هذه البروتوكولات بعناوين مختلفة، مثل "البروتوكولات القديمة والمعاصرة للقاء الحكماء الصهيونيين"، أو "بروتوكولات اجتماع الاتحاد العالمي للماسونية الافرنجية والحكماء الصهيونيين"، أو "أعداء الجنس البشري"، أو "برنامج السيطرة اليهودية على العالم"، أو "عظيم في حقير"، أو "المسيح الدجال كإمكانية سياسية محتملة"، ثم استقر العنوان، أخيراً، على "بروتوكولات حكماء صهيون". ونشرت هذه البروتوكولات، أول مرة، على حلقات في جريدة "زناميا"، (الراية)، الروسية بين 23/8/1903 و7/9/1903.
وكان رئيس تحريرها، آنذاك، كروشيفان، وهو قومي روسي. أما مدام (ك)، فهي يوليانا غلينكا، التي سلّمت نص البروتوكولات إلى القاضي ستيبانوف، واسمه الأصلي فيليب بتروفيتش، وإلى سوخوتين. وعمد ستيبانوف إلى طباعتها بمعونة قدمها إليه كيليبوفسكي الذي كان يعمل لدى الأمير سيرغي ألكساندروفيتش. وادعى ستيبانوف أنه حصل على البروتوكولات من سوخوتين (اسمه الأصلي ألكسي نيكولايفيتش)، الذي زعم أنه حصل عليها من إحدى قريباته المجهولة الاسم (مدام ك أو يوليانا غلينكا)، التي قال إنها حصلت عليها من أحد المحافل الماسونية في باريس. وهناك نسخة أخرى من البروتوكولات، سلّمها سوخوتين إلى دي بوتمي الذي نشرها في سنة 1905 بعنوان "جذر مصائبنا"، في مدينة كيشنوف، وأشار في المقدمة إلى أن الترجمة انتهت في 9/1/1901.

الرواية الصحيحة

في سنة 1903، أصدر الكاتب سيرغي نيلوس كتاباً بعنوان "عظيم في حقير". لكن، في الطبعة الثانية التي صدرت في 1905، أُضيف إلى الكتاب نص بروتوكولات حكماء صهيون وصار عنوانه "عظيم في حقير أو المسيح الدجال كإمكانية سياسية محتملة". أما في طبعة 1911، فصار العنوان: "عظيم في حقير: المسيح الدجال ومملكة الشيطان على الأرض". ويتضح من هذا السرد أن قصة البروتوكولات تختلط فيها الجاسوسية بالاستخبارات بالدعاية المضادة، وساهم التيار القومي الروسي في منح هذه البروتوكولات أهمية استثنائية، لأنه اعتقد أن ذلك يساعده في عدائه للشيوعية والماسونية واليهود الذين كانوا يناصبون القيصر العداء. وكان كتاب "عظيم في حقير" يعبّر عن الروح المضطربة والخائفة للأرثوذكسية الروسية آنذاك. ويتضح أكثر أن مصدر البروتوكولات هو الشرطة السرية الروسية في باريس التي كان يقودها راجكوفسكي واتحاد الشعب الروسي (المئة السود) اللذان طبعا البروتوكولات سراً ونشراها علناً.

في أي حال، توصل البحث الرصين في تاريخ البروتوكولات إلى أن هذه البروتوكولات صاغتها الاستخبارات القيصرية الروسية، وتمكنت من تسريبها إلى الصحف ووسائل الإعلام بطريقة محكمة. والقصة على النحو التالي: في سنة 1850 أصدر جاكوب فينيدي في برلين كتاباً بعنوان "محاورات بين مكيافيلي ومونتسكيو". وقد استمد الكاتب موريس جولي من هذه المحاورات بعض الأفكار التي نشرها في بروكسل في 1864 بعنوان "حوار في الجحيم" أو "السياسة في القرن التاسع عشر". ثم وقع هذا الكتاب بين يدي كاتب ألماني يدعى جون راتكليف، واسمه الأصلي هيرمان جوديش، الذي أعاد صوغ كتاب "حوار في الجحيم" في قصة خرافية عن "المؤامرة اليهودية" نشرها في 1868 في سلسلة روايات بياريتز. وادعى جون راتكليف أن ثمة مؤتمراً يعقده حاخامات اليهود مرة في كل مئة سنة، يتدارسون فيه أحداث المئة المنصرمة، ويضعون خطة للمئة المقبلة، غير أن جريدة "التايمز" اللندنية كشفت، في أغسطس/ آب 1921، أوجه الشبه بين البروتوكولات وكتاب موريس جولي (انتحر لاحقاً)، ونشرت فقرات مطوّلة أظهرت التطابق التام بينهما، وأن فقرات كثيرة واردة في البروتوكولات مقتبسة بالحرف من كتاب "حوار في الجحيم".

اقتفاء الأثر
لا ريب أن روسيا هي المصدر الحقيقي للبروتوكولات، وبالتحديد الاستخبارات الروسية. ويذكر المؤرخ عجاج نويهض، الذي نشر البروتوكولات وعلّق عليها، أن الجنرال البريطاني ديدز حذر حاييم وايزمن من مخاطر الدعاية الروسية ضد اليهود، وأخبره أن الأمير الروسي نيقولاي كان يوزع كراريس البروتوكولات على الضباط البريطانيين الذين كانوا يقاتلون إلى جانب الجيش القيصري في حرب القوقاز. وبات من الواضح تماماً أن هذه البروتوكولات ليست وثيقة يهودية على الإطلاق، بل هي وثيقة روسية معادية لليهود، ويشير إلى ذلك ما يلي:
1- بما أن البروتوكولات نص سري، بل فائق السرية، فلماذا لم تُكتب بالعبرية، مثلاً، بدلاً من كتابتها بالروسية الشائعة جداً في أوروبا القرن التاسع عشر؟
2- لا يوجد في البروتوكولات أي كلمة عبرية، أو حتى ييديشية، أو أي إشارة إلى العهد القديم أو التلمود أو أي كتاب من كتب اليهود كالزوهر، ما يدل على أن كاتبها روسي لا يعرف اليهود معرفة دقيقة.
3- لا تذكر البروتوكولات فلسطين قط.
4- البروتوكولات كلها دفاع عن الارستقراطية وعن الحكم المطلق ونظام التوريث الملكي، وهي، في الوقت نفسه، هجوم على الكاثوليكية والجزويت (اليسوعيين) والليبرالية والاشتراكية والماسونية، وهؤلاء ألد أعداء النظام القيصري.
5- تهاجم البروتوكولات بنيامين دزرائيلي، لأن النخبة الروسية الحاكمة كانت تكرهه، لمساندته الدولة العثمانية، حتى تبقى حاجزاً أمام تمدد الامبراطورية الروسية.
6- تهاجم البروتوكولات الاقتصاد الحر والدستور والديمقراطية والانتخابات. وهذه الشؤون كانت بعضاً من مطالب المعارضة الروسية بعد ثورة 1905، وكان من شأن هذه المطالب، علاوة على الهزيمة العسكرية أمام اليابان، أن تزعزع النظام القيصري بأسره، وهو ما حدث في سنة 1917.

* * *

من طرائف الأمور أن محمد خليفة التونسي، الذي ترجم هذه البروتوكولات إلى اللغة العربية ترجمة سيئة، ادعى، في مقدمة الترجمة، أن ما من أحد ترجم البروتوكولات، أو عمل على إذاعتها بأي وسيلة، إلا انتهت حياته بالاغتيال أو الموت الطبيعي ظاهراً. وأضاف: إن كل مَن ترجم الكتاب في إنكلترا وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا قُتل، وأن الصحف التي نشرته نُسفت، لأن اليهود حريصون على أن تظل هذه البروتوكولات سرية. والواضح أن هذا الكلام هذياني، ولا سند له، لأن ناشراً واحداً أو مترجماً للبروتوكولات لم يُقتل، بمَن فيهم محمد خليفة التونسي نفسه، ولم تتعرض أي دار للنشر للنسف أو للتدمير، وحتى لو وقعت حادثة ما من هذا القبيل فهي هامشية، وليست حالة عامة. والبروتوكولات، منذ البداية، لم تكن سرية بل شديدة الشيوع. والمعروف أن دار الشروق المصرية نشرت للدكتور عبد الوهاب المسيري في سنة 1999 "موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية"، وفيها بحث وافٍ عن البروتوكولات، ونشرت له أيضاً كتاباً مستقلاً عن الموضوع، ولم يتمكن اليهود من إعاقة هذا العمل أو نسف دار الشروق أو قتل المؤلف. والغريب أن صديقنا الراحل عبد الوهاب المسيري حين مرض بالسرطان ادعى بعضهم أن الموساد هو الذي دسّ له الخلايا السرطانية في نخاعه الشوكي... فتخيّلوا!