صبرا وشاتيلا.. أصوات الضحايا

صبرا وشاتيلا.. أصوات الضحايا

17 سبتمبر 2014

بعد المجزرة (18سبتمبر/1982/أ.ف.ب)

+ الخط -
ككل ضحايا المذابح، يرفض أهل مخيمي صبرا وشاتيلا النوم. يضجّون في قبورهم، نسمع أصوات استغاثاتهم، من داخل الخزان، أو من داخل البئر العميق. لا تمر سياراتنا بالبئر، ولا مفتاح في يدنا لباب الخزان. عقيمون نحن إزاء صرخاتهم. رائحة دمهم لا تزال تعبق في ليالينا. أصوات الرصاص المنهمر على أدمغتهم يحزّ ذاكرتنا. الضوء المنبعث من عيونهم يُعمي بصيرتنا. الحبال التي لفّت أياديهم تخنقنا. أياديهم المكبلة خلف الظهر تهرش وجوهنا. نحن الناجون من آلامهم، قلوبنا حجر. ننام على أصواتهم، نحن الملعونون بلعنة النوم، ونصحو عليها. مر أطفال المخيم من أمامنا، فراشاتٌ خرجت من مكان يهابه النحل. ألقت فتاة المخيم علينا السلام. ثم ألقت ثوبها المعفر بالدم إلى وجوهنا. ثم خلعت يدها ورمتها، ثم خلعت رجلها، ثم خلعت رأسها. وتناثرت فتاة المخيم أمامنا، فتناثر صوتنا، وارتفع صوت صمتنا.

لأيلول قصصه لدى العشاق والشعراء والمغنين، يترقبونه ليبثوه أشواقهم، أو يستعيدو فيه صفاء لحظات عشقهم، غير أن قصصاً أخرى يحملها أيلول، تبقى مشتعلةً لدى شعب المآسي الكبرى، الفلسطيني. قصص مخبأة في ذكرياتهم، يضعونها إلى جانب مفاتيح بيوتهم التي يحملونها، أينما رحلوا أو رُحِّلوا. وتبقى، أيضاً، طي الكتمان لدى شعوب أخرى، أو محاكم إنسانية دولية، لا يجرؤ على مقاربتها أو ذكرها إلا نفر قليل ممن لا يريدون للدم أن يبقى معلقاً دون سؤال. وهكذا تتراكم المجازر، مجازر الأخوة والأعداء، ضد هذا الشعب. منذ مجزرة إخراجهم في النكبة الأولى، حتى النكسة، وحتى حلول شهر أيلول الذي تجمعت فيه المجازر، أيلول الأسود وصبرا وشاتيلا.

دخل القاتل إلى المخيم الأعزل. القاتل الجبان الذي انتظر خروج المقاومين الفلسطينيين من بيروت، بعد حصار حلفائه الإسرائيليين لها أكثر من شهرين، إثر اجتياحهم لبنان أوائل يونيو/حزيران 1982. هناك، لم يجد مقاتلين، لم يجد غير النساء والأطفال والشيوخ، فبعد أن خرج المقاتلون الفلسطينيون من لبنان في الأول من سبتمبر/أيلول، بموجب اتفاق ضمنه المبعوث الأميركي، فيليب حبيب، والذي ينص، أيضاً، على ضمان الولايات المتحدة سلامة المدنيين الفلسطينيين المقيمين في المخيمات. ولكن، بعد انسحاب القوات المتعددة الجنسيات في العاشر من الشهر نفسه، شاعت رائحة مؤامرة لإبادتهم، وتصفية حزب الكتائب اللبناني وميليشيا القوات اللبنانية حساباتهم مع أبناء الشعب الفلسطيني. فحاصرت القوات الإسرائيلية، التي احتلت بيروت، مخيمي صبرا وشاتيلا في الخامس عشر من سبتمبر/ أيلول بالدبابات والجنود، محكمةً السيطرة على منافذهما، لمنع خروج السكان منهما. وقصفت المدفعية الإسرائيلية، في صباح اليوم التالي، المخيم، وتكفل قناصة الاحتلال بقتل كل من يتحرك في الأثناء.

قبل ذلك بأيام، أتم وزير الدفاع الإسرائيلي، الجنرال إرييل شارون، اتفاقاً مع قادة حزب الكتائب والقوات اللبنانية، يقضي بالسماح لمقاتليهما بدخول المخيمات لـ"تنظيفها"، بحجة بقاء أكثر من ألفي مقاتل فلسطيني فيها، ومن هذه المخيمات صبرا وشاتيلا. فبعد أن فرغ الإسرائيليون من القصف والقنص، دخل مئات من مقاتلي حزب الكتائب والقوات اللبنانية إلى المخيم، لقتل السكان المدنيين، مستخدمين الأسلحة البيضاء والرشاشات الآلية. وقد سجّل في تلك المجزرة أن حقداً كبيراً كان يدفع بهؤلاء المقاتلين لتفريغ وحشيتهم في أجساد أطفال ونساء وشيوخ، لم يتمكنوا من الدفاع عن أنفسهم سوى ببضعة بنادق، خلفها المقاومون الفلسطينيون قبل خروجهم، وكانت قد نفدت ذخيرتها، قبل دخول الميليشيات اللبنانية، فلم يتبق لسكان المخيمات غير صدورهم، لتقف في وجه المدافع.

لم يكن القاتل على عجلةٍ من أمره، فما ظهر على جثث الضحايا الفلسطينيين، وما رواه شهود، يبين أن السكاكين والهراوات والأسلحة البدائية استخدمت في المجزرة. وكان أفراد الميليشيات اللبنانية يدخلون المنازل منزلاً تلو الآخر. ويبحثون عن النساء، ليبقروا بطون الحوامل منهن، ويغتصبوا الفتيات. وكانوا يقيدون أيادي الرجال خلف ظهورهم بحبال، ثم يذبحونهم بالسيوف، لقطع أعناقهم وفصل رؤوسهم عن أجسادهم، أو طعنهم بالسكاكين والحراب، أو إطلاق النار عليهم، تسليةً وإضاعةً للوقت. وكانوا يقتلون الصغار خشية أن يصبحوا "مخربين" حين يكبرون. كما لم يوفروا أفراد الطواقم الطبية الذين لاقوا مصيراً مشابها. ودفنوا أشخاصاً كثيرين أحياء. واختطفوا آخرين إلى جهاتٍ ومصائر مجهولة. وقصفوا الملاجئ ودمروها فوق رؤوس قاطنيها. ولم يكن الليل شفيعاً للسكان، فقد أضاءت كشافات الجيش الإسرائيلي وقنابله المضيئة شوارع المخيم للمجرمين طوال ليالي المجزرة، فتواصلت عمليات القتل حتى صباح ال 18 من أيلول، حين أتم القاتل عمله، مخلفاً أكثر من 3500 شهيد ومفقود.

فلسطينية تحمل صور إخوتها الأربعة من ضحايا المجزرة (أ.ف.ب) 

كان شارون وضباطه يشرفون على مجريات العملية، ليتأكدوا من حسن سير المجزرة، حيث كانوا يراقبون عمليات القصف وتقدم القوات وعمليات القتل من الطابق السادس لبناءٍ مطل على المخيمين. كان التنسيق بين القوات الإسرائيلية وميليشيات الكتائب والقوات اللبنانية على أعلى المستويات، إلى درجة أن المدفعية الإسرائيلية كانت تقصف مناطق وأحياء من المخيم، لم يكن قد دخلها أفراد الميليشيات اللبنانية بعد، نوعاً من التمهيد. وكان وجود شارون في موقع المجزرة وحولها، وقد رآه هناك شهود عيان كُتبت لهم النجاة، واقعة ساعدت في رفع قضية ضده أمام محاكم في لبنان وبلجيكا والسويد. لكنه أفلت من المحاكمة، وأفلت مجرمون آخرون، لتبقى أرواح ضحايا المجزرة تطوف في ليالينا سائلة عن القصاص.

46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.