الخرطوم حين تبتعد عن طهران

الخرطوم حين تبتعد عن طهران

15 سبتمبر 2014

أحمدي نجاد والبشير بعد توقيع اتفاقية في الخرطوم (مارس/2007/Getty)

+ الخط -

 أن تكون سياسيًا تعني، بالضرورة، أن تكون براغماتيًا، وربما بسبب ذلك، سُميت السياسة بـ "فن الممكن"، غير أن البراغماتية درجات، فمنها ما يقف على أساسٍ فلسفيٍّ عتيد، اختلفت أو اتفقت معه؛ كما في كتابات شارلس بيرس، وويليام جيمس، وجون ديوي، وكما في جديدها العائد أيضًا، في كتابات ريتشارد رورتي، ويورغن هابرماس، وكورنيل ويست، وغيرهم.

أما الاستخدام الدارج لكلمة "براغماتية"، فإنه يلحقها باللامبدئية المطلقة، بل، وبالانتهازية. استدعت الحديث عن البراغماتية، الصفعة الأخيرة التي وجهتها الخرطوم لطهران، بإغلاقها المراكز الثقافية الإيرانية وطرد موظفيها، ما أوقع الخطوة المفاجئة في باب السلوك البراغماتي الفالت، بالمعنى الدارج للكلمة.

جرى إغلاق المراكز الثقافية الإيرانية في السودان بتهمة "نشر المذهب الشيعي"، وتهديد "الأمن الفكري" للبلاد. وكان لافتاً في القرار إمهال الموظفين، وفي مقدمتهم الملحق الثقافي، اثنتين وسبعين ساعة فقط لمغادرة البلاد. هذا في حين أنها ظلت تمارس نشاطها في السودان، عشرات السنين. كما أن هدفها المتمثل في نشر المذهب الشيعي لم يكن مجهولاً لدى الحكومة السودانية. فما الذي استجد، يا ترى، وقاد إلى هذا القرار المفاجئ؟

أُنشئ المركز الثقافي الإيراني في السودان، في فترة حكم الصادق المهدي في 1988، وقد أرخ افتتاحه لطور غير مسبوق في العلاقات الإيرانية السودانية. ومعلومٌ أن إنشاء المراكز الثقافية التابعة لبلد ما، في بلد آخر، يقع ضمن التبادلات الدبلوماسية المحبذة، غير أن الملحقية الثقافية الإيرانية في السودان لم تقف عند حد ما تقرّه الأعراف الدبلوماسية، وكانت الحكومة السودانية تعرف ذلك.

ظلت الملحقية الثقافية الإيرانية تمارس عملاً دعويًا تبشيريًا ذا هدف سياسي، مثّل نشر المذهب الشيعي قاعدته، غير أن الحكومة السودانية خرجت فجأةً، بعد عقودٍ، لتقول: إن المراكز الثقافية الإيرانية تمارس عملاً لا تقرّه الأعراف الدبلوماسية، وأنها تهدد "الأمن الفكري" للبلاد، وتهدد سلامها الاجتماعي! وردّت مرضية أفخم، الناطقة باسم وزارة الخارجية الإيرانية، قائلة إن أنشطة المراكز الثقافية الايرانية في السودان تتم وفق الاتفاقات الرسمية الثنائية، ووفقًا للقوانين السودانية.

في فترة رئاسته الوزارة في فترة الديمقراطية الثالثة، (1986- 1989)، زار الصادق المهدي طهران بضع مرات، في محاولة للتقرب إلى نموذج ثورتها. جرى ذلك، في وقتٍ كانت فيه الحرب العراقية الإيرانية على أشدها، ما أغضب عليه دول الخليج.

حاول بناء جسرٍ مع إيران، تأسيسًا على ما يظنه تشابهًا بين الفكرة المهدوية السودانية، التي تعتنقها الطائفة التي هو على رأسها، والتصورات الدينية الشيعية التي أفرزت، في نهاية تداعياتها، الثورة الإيرانية، على يدي الإمام الخميني.


الإسلاميون السودانيون بقيادة حسن الترابي هم من دفع الارتباط بإيران إلى قمةٍ غير مسبوقة، فهم أول من هلل لثورة الخميني في الأقطار العربية، وسيّروا التظاهرات الحاشدة في تأييدها في شوارع الخرطوم، مرددين: "إيران، إيران، في كل مكان".

وما أن وصلوا إلى السلطة بمفردهم، بانقلاب عسكري، في يونيو/حزيران 1989، حتى اندفعوا بكل قوتهم في توثيق العلاقات السودانية الإيرانية. بل، وبدأوا في فترة احتلال العراق الكويت، يسفرون عن عدائهم الذي كانوا يخفونه تجاه دول الخليج العربية، ويظهرون نيتهم في إطاحة هذه الأنظمة. حينها، أخذ إعلام الحكومة السودانية على كاهله مهمة شن حملاتٍ مسعورةٍ على الأنظمة الخليجية، اتسمت بالفجور وبساقط القول، ما أوصل العلاقات السودانية الخليجية، حينها، إلى ما يشبه القطيعة التامة.

الآن، فجأةً، يقلب إسلاميو السودان لإيران ظهر المجن، وبلا مقدمات! ويبدو أن عوامل دفعت الحكومة السودانية إلى اتخاذ هذا القرار الذي باغت الجميع وأدهشهم. منها، في ما أرى، حالة الانهيار الاقتصادي التي دخل فيها السودان منذ فقدانه عائدات النفط نتيجة انفصال الجنوب، وتوقف العون الخليجي نتيجةً التقارب السوداني الإيراني المتنامي، خصوصاً في الجوانب العسكرية المتعلقة بأمن البحر الأحمر.

وبلغ الضغط من دول الخليج، أخيراً، درجة إيقاف تعاملاتها المصرفية مع البنوك السودانية. أيضًا، ظهرت في الأسبوعين المنصرمين بوادر صراع طائفي في السودان، أصبح الشيعة طرفاً فيه، ولأول مرة. فقد تسبب إعلانٌ عن زيارةٍ لشخصية يُظن أنها محوريةً في الجسم الشيعي الناشئ في السودان، إلى بقعة صوفية شهيرة في ولاية النيل الأبيض، في إثارة حفيظة المجلس الأعلى الصوفي السوداني، فأخذ يستنهض جماهير تلك المنطقة لاعتراض الزيارة، ما جعل الجهات الأمنية تتدخل لمنع الزيارة، تحسبًا لأي صدام قد يقع.

أيضًا، علا صوت القوى السلفية السودانية ضد انتشار التشيع في السودان، وهي قوى مثلت سندًا للنظام الذي ظل يعتمد في استمراريته على الخطاب الديني، ما أخاف النظام من فقدان هذه القاعدة، التي خشي أن تؤثر على نظرة الجمهور العريض نحو النظام. أيضًا، ربما أخاف ازدياد قوة الحوثيين في اليمن، إلى حد تهدديهم صنعاء، الحكومة السودانية، فبدأت تعيد النظر في حساباتها، خشية أن ينشأ في السودان جسم مسلح، كحزب الله في لبنان، وكالحوثيين في اليمن.

تضاف إلى ذلك كله التغيرات التي أخذت تعتري الخريطة السياسية في الإقليم، واختلاط الأوراق بشكل غير مسبوق، ومواجهة المسلحين الإسلاميين بعضهم، وتزايد انكشاف ظهر النظام السوداني.

يبدو أن ظهور النظام السوداني بمظهر المقاوم للمد الشيعي في السودان، هو البطاقة المتوفرة لديه في اللحظة الراهنة. فاستخدامها يعيد، من جهة، دعم السلفيين بكل أطيافهم الحكومة، ومن ورائهم سواد الجمهور السوداني السني. ومن جهة أخرى، ربما تؤثر على موقف الدول الخليجية، فتخفّ الضغوط والعزلة، وربما يعيد ذلك العون المالي الخليجي.

وحتى الآن، بقي رد الفعل الإيراني متحفظًا جدًا. لم تزد مرضية أفخم، الناطقة باسم الخارجية الإيرانية على القول إنهم متأكدون أن الحكومة السودانية لن تسمح لمجموعاتٍ وصفتها بأنها "لا تريد الخير لإيران والسودان"، أن تقوض العلاقات بين البلدين، مشيرة إلى ضغوط الجماعات السلفية المتطرفة، والصعوبات الاقتصادية الشديدة التي أخذ يعانيها السودان.

ولربما أنعش تصريح أطلقه كمال عمر، الأمين السياسي لحزب المؤتمر الشعبي الذي يرأسه حسن الترابي، آمال الإيرانيين في ألا يفقدوا ما بنوه في السودان عبر عقود. قال عمر، إنهم لا يتفقون مع قرار الحكومة بإغلاق المركز الثقافي الايراني، لأنهم "ليس لديهم تعصب مذهبي"، وإن حرية الرأي والتعبير تقتضي أن تظل المراكز الإيرانية مفتوحة، وأن تجري مقاومتها بالمنطق. ويؤكد هذا التصريح ثبات استراتيجية الترابي التي ظهرت، منذ سبعينيّات القرن الماضي، في الاستخدام الاستراتيجي والسياسي للصلة مع إيران، في إنجاح مشروع الإسلامين في السودان الذي بدأ عابرًا للأقطار.

إسلاميو السودان وحماس هما التياران السُّنيَّان الأوثق صلةً بإيران، غير أن الثورة السورية أرغمت حماس على الابتعاد من المحور الإيراني، على الأقل في ما يتعلق بالموقف من الثورة السورية. والآن، يغلق إسلاميو السودان المركز الثقافي الإيراني، ويطردون موظفيه. ويبقى السؤال: ما هي، يا تُرى، حدود براغماتية الإسلاميين؟ وأين ينتهي عندهم التكتيكي، ويبدأ الاستراتيجي؟ أم إن ضبابية الرؤية الاستراتيجية، والثقة الزائدة في النفس، والنزعة الميكافيلية المفرطة، تحصرهم، باستمرار، في استمراء اللعب بالبيضة والحجر، ما يضطرهم، كل حينٍ وآخر، للقفز من النقيض إلى النقيض؟