مُصالحة الجناة في اليمن

مُصالحة الجناة في اليمن

04 اغسطس 2014

هادي وصالح في أول أيام عيد الفطر

+ الخط -

تتحول، في اليمن، المفاهيم الإنسانية النبيلة كالحوار الوطني، والمصالحة الوطنية، إلى مسميات عبثية، تتماشى مع مزاج نخبة سياسية معلولة، لا يهمها سوى حرق كل ما يمكن أن يشكل طوق نجاة في بلدٍ يتجه إلى الهاوية.

فبالطريقة الدراماتيكية التي أُعد فيها حوار أُريد له أن يكون وطنياً قادراً على انتشال البلاد من أزماتها المتعاقبة، وانتهى بكونه حواراً مغلقاً لمراكز قوى متصارعة وبلا مشروع. اليوم وبالعقلية المأزومة الانفعالية ذاتها لهذه النخب يتم ترويج المصالحة الوطنية، ليس كمشروع سياسي واجتماعي، يتم التهيئة له عبر فعاليات سياسية وثقافية وجماهيرية، تنطلق من قاعدة المجتمع لتحقق مزاجاً شعبياً منفتحاً يتجاوز صراعات الماضي ويتصالح مع الذاكرة الجمعية. بل يتم تقديمه كمصالحة انتهازية بين مراكز نفوذ احتربت على دماء اليمنيين، وأنهكتهم صراعاتها عقوداً طويلة.

وعلى الرغم من سوء تقدير يمنيين كثيرين لإدارة الرئيس عبد ربه منصور هادي المرحلة الانتقالية، ومساهمته في تأجيج صراعات بينية، واتكاله، مثل سلفه علي عبد الله صالح، في إدارة البلاد بالأزمات والحروب، وتغليب طرف على آخر؛ إلا أنهم عاشوا وقائع صدمة كبيرة جراء لقاء هادي ومستشاره علي محسن الأحمر وصالح في أول أيام العيد؛ إذ لم يكن متوقعاً أن تصل الخفة السياسية إلى حد التصالح مع المتهمين الرئيسيين بأحداث العنف، في أثناء الثورة التي سقط فيها مئات الشهداء وآلاف الجرحى، الثورة التي كان لها الفضل في نقل هادي من دفة الاحتياط الأبدي، نائب رئيس مجهول وبلا صلاحية مدة 18 عاماً، إلى رئيس جمهورية.

في مشهد العيد الذي تناقلته وسائل الإعلام تعبيراً عن المصالحة، رأينا لم شمل تحالف صيف 1994 الذي أعلن الحرب على الجنوب، وصنع لصالح انتصاراً مراً على اليمنيين، ولم ينكسر إلا مع اندلاع ثورة فبراير/شباط 2011 التي اعتقدنا أن إنجازها الأهم هو انفراط عقد هذا التحالف، وخلاصنا من نيره، لكن ما رأيناه في هذا المشهد الكاريكاتوري كان خيبة مريرة لحسن النية التي منحها اليمنيون لرجل لا يجيد أن يكون رئيساً لكل اليمنيين، وإنما رئيساً لم يتحرر من تبعات الاعتياش على إرضاء مراكز النفوذ، وإدارة تناقضاتها. والأسوأ من هذه الخيبة هو ترويجها باعتبارها مصالحة وطنية، تخص اليمنيين، وعلينا مباركتها.

لا نحتاج نباهة كثيرة، لندرك أن ما جرى هو مصالحة، ليس فيها أي بعد وطني، وإنما مصالحة سياسية بين حزب المؤتمر الشعبي العام (هادي وصالح) وحليفه التاريخي حزب الإصلاح (علي محسن الأحمر) لمواجهة تداعيات ما بعد حرب عمران أو لتحقيق الاستقرار السياسي للرئيس هادي لإدارة المرحلة المقبلة.

ومهما كانت التكهنات بشأن هذا اللقاء، فإن ما يهم أن الغائب الرئيس في هذا المشهد هم أصحاب الحق من الضحايا الذين يجب أن لا تتم أي مصالحة وطنية إلا بحضورهم، والتعاطي مع حقهم الأصيل والأخلاقي في فكرة المصالحة من عدمها، بالإضافة إلى غياب القوى السياسية والاجتماعية التي كانت جزءاً أصيلاً من الصراع.

ومن جهة أخرى، إن تسويق ذلك اللقاء باعتباره مصالحة تحايل على فكرة العدالة الانتقالية وسمو مقاصدها، كونها تتحقق بالتدرج، وتتماشى كمنظومة متكاملة، وتأتي المصالحة إجراءً أخيراً، يقرر فيه الضحايا تقديم تنازل عن بعض حقوقهم، من أجل انتقال المجتمع إلى مرحلة جديدة. وبالطبع، لا تكون المصالحة (عفو الضحايا) قابلة للتحقق، إن لم يتم إنجاز بقية إجراءات العدالة الانتقالية الثلاث: الكشف عن الحقيقة، إصلاحات قضائية وأمنية، وجبر الضرر. وفي حال نجاح هذه الإجراءات، يقدم الضحايا تنازلاً عن بعض الأضرار النفسية، مساهمة منهم في انتقال المجتمع إلى واقع جديد، متحرر من تبعات حروب وصراعات الماضي وآثارها.

ومن ثم، فإن شروط تحقيق العدالة الانتقالية لا تتم إلا في بلد حقق انتقالاً سياسياً حقيقياً تبعه تغيير جذري في البناء المؤسسي والتشريعات القانونية، ويمكن إسقاط الحقائق السابقة على معظم تجارب العدالة الانتقالية التي تمت في بلدانٍ كثيرة، عانت من الصراعات والحروب الأهلية. ومن الثابت والبديهي أن اليمن، في وضعها الحالي، لم تشهد أي انتقال سياسي، أو تغيير في بنائها المؤسسي أو منظومتها القانونية، وقطعاً لا يمكن اعتبار ما فاجأ به الرئيس هادي اليمنيين، صباح أول أيام العيد، مصالحةً وطنية بأي حال.

بالنسبة للنخب السياسية الانتهازية التي لم تكن الثورة بالنسبة لها إلا غسلاً لقذاراتها وتاريخها الدموي، وإعادة تموضعها في الخارطة السياسية في مرحلة ما بعد الثورة، فإن وضوح فكرة المصالحة الوطنية، وقيامها على أسس وطنية وقانونية، ليس حاضراً في أجندتها، كما أن تحقيق العدالة والانتصار للضحايا والشهداء لا يدخل في حيز اهتماماتها الأخلاقية. ومن ثم، تظل تلك الصورة التي تناقلتها وسائل الإعلام اليمنية والعربية وروج لها عديمو الحساسية الإنسانية هي قمة الوعي الوطني اليمني الضحل في ذهنية هذه النخب العفنة.

أما اليمنيون الذين كانوا يعتقدون أن "يمن ما بعد الثورة" سيكون وطناً للجميع، يمكن فيه تحقيق عدالة شاملة، تقتص لهم من القتلة واللصوص وتجار الحروب، فإن ما حدث بالنسبة لهم هو "كوميديا سوداء".

تقول الحكمة البرجماتية لتشرشل: "في السياسة ليس هناك صديق دائم ولا عدو دائم". هذه الرافعة السياسية التي دشنت تاريخاُ بلا أخلاق، ولا ذمة، تاريخ لا ينتصر للضحايا بل للجناة، مبررة التحالفات السياسية الأشد قذارة، والتي لا يمكن قبولها، بل التعاطي معها في ضوء كل التحركات وأشكال التحالفات الجديدة في الساحة اليمنية، باعتبارها اصطفافاً مخزياً للماضي ضد إرادة الشعب، واصطفاف للكراهية والعنجهية وكل القيم القبيحة ضد العدالة. إنه المنطق الذي لا يمكن القبول به، أو التسامح معه، تحت أي ذريعة آنية، فأن تصبح السياسة بلا أخلاق ولا ضمير، فهذا ما لا يمكن تبريره، بخفة مميتة للقلب.

97D578E8-10ED-4220-B7E6-97386BBC5882
بشرى المقطري

كاتبة وناشطة يمنية