فقيه السلطة .. الالتقاء والاشتباك ... والمواربة مع الطغيان

فقيه السلطة .. الالتقاء والاشتباك ... والمواربة مع الطغيان

09 يوليو 2014
+ الخط -

 

"والحاصل أن كل المدققين السياسيين يرون أن السياسة والدين يمشيان متكاتفين، ويقدّرون أن إصلاح الدين أسهل وأقوى وأقرب طريقا للإصلاح السياسي" ... الكواكبي
 
تمثل الحرية والعدالة والديمقراطية، إلى جانب أنها أهم المبادئ التي فجرت الربيع العربي، تمثل أيضا أهم محددات الاجتماع البشري، ودراسة هذه المفاهيم وترسيخ جذورها في المجتمع العربي يعد أحد أولويات حملة لواء الفكر والتنوير، بيد أنه لا يمكننا دراسة هذه المفاهيم من دون مواجهة واحدةٍ من أهم القضايا الشائكة في تاريخ الفكر العربي والإسلامي، قضية العلاقة بين السلطة والفقيه.
لا توجد في الفكر الإسلامي قضية أشد اشتباكاً وتعقيداً من العلاقة بين السلطة والفقيه، لأنها تمثل تمظهراً للعلاقة بين السياسة والدين، وهي علاقة غير خاف اشتباكها في التراث الإسلامي الذي تزامن فيه ظهور الدين والدولة، وتأسست مذاهبه الفقهية على الخلاف السياسي بشأن الإمامة ورئاسة الأمة. لذلك، فإن التداخل بين الديني والسياسي والتقاطع بين دائرة السياسي ودائرة الفقيه في الفكر الإسلامي واقع لا مناص منه.
ينبغي أن تكون العلاقة بين السياسي والفقيه مؤسسة على تحديد مساحة كل طرف، ودوره في خدمة المجتمع، فالسياسي يدير شؤون الدولة، والفقيه يقوم بدور تثقيفي، يبين فيه حقوق الناس وواجباتهم، كما يمارس دوراً رقابياً، ينتقد فيه أداء السياسي ويوجهه، وهذا هو ما يشير إليه الإمام الغزالي بقوله: "الفقيه معلم السلطان ومرشده إلى طرق سياسة الخلق وضبطهم". لكن المجتمعات العربية تعاني، اليوم، من انقلابٍ في الأدوار، فالسياسي هو من يعلم الفقيه، ويملي عليه، والفقيه هو من يزيف وعي الناس، ويخضعهم لطاعة السلطة. إن في تماهي الفقيه والسياسي إلغاء للرقابة الاجتماعية على السلطة، وتحولها إلى أداة دعائية لها.
استغلال النص الديني
يلزمنا التذكير، بدايةً، أن ظاهرة "فقيه السلطة" ليست ظاهرة حديثة، ولا هي خاصة

بالعرب، بل كانت حاضرةً على مر العصور، وتعاقب الأمم والحضارات، لكن المدهش أن تتسرب هذه الظاهرة الانهزامية إلى المسلمين، أتباع دين الإصلاح والثورة والتغيير. لقد أثخنت هذه الظاهرة في جسد الأمة الحضاري جراحاً غائرة، حيث أدت إلى انشطار ضمير المسلم بين قيم إنسانية رفيعة، يقرأها في كتاب الله، وممارسات قمعية يبررها الفقيه للطغاة.
يتمترس الفقيه خلف حشد هائل من النصوص الدينية، لتبرير مواقفه وتعزيز آرائه، ما دفع بعضهم إلى اتهام النص الديني، باعتباره باعثاً لبروز مثل هذه الظواهر، من دون دراسة متأنية لهذا النص، ومحاولة تفكيكه، ونحن لا يمكننا مقاربة النص الديني من دون التمييز بين ما هو نص "القرآن" وما هو تنصيص "الرواية". إن دراسة القرآن تكشف عن اكتنازه بالنصوص المحرضة على الثورة والمناهضة للاستبداد. يقول حسن البصري: الدين بين لاءين، اللاء الأولى قوله تعالى (ولا تطغوا)، والثانية قوله (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا).
في الجانب المقابل، نجد أن الروايات التي دونت تحت عين سلطات القمع والاستبداد وسمعها، بعد 150 عاماً من وفاة النبي عليه السلام، لا تخلو من التباس، فكما توجد أحاديث موافقة لدلالات الكتاب العزيز تنص على أن أفضل الجهاد كلمة حق في وجه سلطان جائر، توجد عشرات الروايات التي تضادها، وتدعو إلى الخنوع للمستبد، والخضوع لشهواته ونزواته، ولو ضرب ظهرك وأخذ مالك، وهي مروية في أصح الكتب، وأعلاها إسناداً. الأمر الذي أربك الفقهاء منذ قرون الإسلام الأولى وحتى اليوم، وقد حاول محمد رشيد رضا أن يوفق بين الآراء المتشاكسة، وخرج بنتيجة مفادها بأن الثورة على المستبد لا تجوز إلا إذا دعا إليها قادة الرأي العام الذين يمثلون أهل الحل والعقد، وهذا الرأي هو الذي تبنته، بعد ذلك، حركات الإسلام السياسي المعتدلة. لذلك، لا يمكننا اعتبار النص الديني سبباً في نشوء ظاهرة فقيه السلطة، ابتداء، بيد أننا لا ننفي أن ظاهرة التنصيص الروائي هي من قام بتغذيتها وترسيخها.
إذاً، ليس النص الديني سوى ضحية لهذه الظاهرة التي اصطنعها الاستبداد. حين يسدل الظلم ستائره الحديدية، ويشتد ظلام الاستبداد، تتفاوت ردات فعل الناس، ومنهم الفقهاء، إجمالا يمكننا حصر أربعة أنواع من ردات الفعل، الأولى: الثورة، كما هو الحال، في موقف الحسين بن علي بن وعبد الله بن الزبير وابن الأشعث والقراء والخوارج، فجميعهم ثاروا من أجل الحرية والعدالة.
الثانية: الرفض مع عدم القدرة على الثورة، كما هو الحال لدى كبار التابعين وتلامذتهم، من أمثال جابر بن زيد والحسن البصري وإبراهيم النخعي وأبي حنيفة. الثالثة: التكيّف، أو ما يدعوه محمد عابد الجابري مبدأ الأمر الواقع، جرياً على قاعدة "من اشتدت وطأته وجبت طاعته)، وهذا هو موقف أهل الحديث الذي صيّرته الدولة العباسية، بعد محنة خلق القرآن وطرد المعتزلة، موقفاً رسمياً لجميع مدارس أهل السنة والجماعة. الرابعة: الانسحاب، والعزلة والانقطاع بعيداً لا عن السلطة وحسب، بل وحتى عن المجتمع، وهذا ما قام به أغلب المتصوفة وأتباعهم، وهو، أيضاً، ما قامت به أغلب مدارس الشيعة التي تخلت عن وعودها الثورية، بعد انقطاع سلسة الأئمة وظهور ميثولوجيا المهدوية والانتظار.
بيد أن أسوأ أنواع ردات الفعل، وأشدها خطراً، يتمثل في الصف الطويل من الانتهازيين الباحثين عن الفرص، والمتسلقين على أكتاف النصوص والمبادئ والقيم، إنهم وعاظ السلاطين، بحسب تعبير علي الوردي، و"رجال الاستحمار"، بحسب علي شريعتي، إنهم فقهاء السلطة.
التقوى .. ومساندة الاستبداد
يتوهم ناس كثيرون أن زيادة العلم مرتبط بازدياد التقوى، وهذا الوهم يجعلهم غير قادرين على تشخيص هذه الظاهرة، ما يحيلنا إلى جدلية نفسية وإجتماعية مهمة، حول محددات السلوك البشري؟ هل هي العاطفة والوجدان أم العقل أم الغرائز والأهواء أم الرغبات

البيولوجية أم إكراهات الواقع وإملاءات المجتمع. بيد أننا نستطيع القول، وبدرجة عالية، من الحسم، إن محدد السلوك في حالة فقيه السلطان لا يمكن أن يكون العقل، ولا العاطفة والوجدان، وإنما هو الاستسلام للشهوات والرغبات التي تجد مبرراتها في ضغط الواقع وإكراهاته.   
يقوم فقيه السلطة بأدوار عدة، لدعم المستبد، والحفاظ على هيبته، فهو يضفي عليه الشرعية، ويبرر ظلمه وطغيانه، كما يعمل على رفع الفزاعات المقدسة "الفتاوى" ضد مطالب حقوق الإنسان التي يعتبرها بدعة محرمة، كما يحرّم الثورة على الظلم، بدعوى الفتنة، غير أن أخطر تلك الأدوار يتمثل في تزييف وعي المجتمع وإلهائه عن قضاياه الرئيسية، المرتبطة بالظلم والاستبداد والتوزيع غير العادل لثروات البلاد، وإشغاله بقضايا تافهة، كمسائل الخلاف المذهبي وقضايا تعليم المرأة وعملها وقيادتها السيارات، الأمر الذي يغرق المجتمع في جدل عقيم، تستفز فيه عوامل الخوف التوجس من دعوات الحرية والديمقراطية.
لا يقوم الفقيه بهذه الأدوار المبتذلة مجاناً، بل هو يعلم أن خزانة السلطة مفتوحة له ولأسرته، بل وربما لذريته من بعد، هذا بجانب إخراس المستبد الأصوات الفقهية التي تنازع فقيه السلطة مكانته وحضوره في المجتمع، كما أنها تتيح له ممارسة الاستبداد الديني على المجتمع، وبذلك يفرغ ساديته التي هي امتداد لسادية الطاغية.
استقطاب متبادل مع الطاغية
إن عملية الاستقطاب المتبادل بين الطاغية والفقيه لا تحدث بصورة فجة، بل هي في الغالب تتم بصورة مواربة، لا تخلو من تمنع وغزل، فحين غزت جحافل نابليون شوارع القاهرة خطب في الفقهاء قائلا: إني لم آت لحرب الإسلام، بل لدراسته وتعلمه. فالسياسي شخص متمرس في عقد الصفقات وإبرام الاتفاقيات، وخبير في شراء الذمم والخيانات. وليس من المبالغة القول إن أغلب الطغاة يحفظ وصايا كتاب "الأمير" لمكيافيللي، أكثر من حفظ نصوص كتاب الله. أما الفقيه فهو، وإن كان خبيراً في العلوم الشرعية، لكنه أقرب إلى البراءة، إن لم نقل السذاجة، حين يتعلق الأمر بالعمل السياسي، فالفقهاء كما يقول ابن خلدون: (متعودون في سائر أنظارهم الأمور الذهنية والأنظار الفكرية، لا يعرفون سواها، والسياسة يحتاج صاحبها إلى مراعاة ما في الخارج، وما يلحقها من الأحوال ويتبعها فإنها خفية)، فالسياسة تقوم على النفعية والمصالح البراغماتية، بينما يقوم الفقه على المبادئ والأخلاق والعموميات.
يزعم بعضهم أن المستبد في طريقه إلى الاستغناء عن فقيه السلطة، فعمليات تزييف الوعي لم تعد حكراً على الفقهاء، بل ظهر في ساحة صناعة الوعي فاعلون جدد، أهمهم رجال الصحافة والإعلام والأكاديميون والكتاب والأدباء. بيد أن هؤلاء، جميعاً، لا يستطيعون إزاحة فقيه السلطة عن مكانته القريبة من قوائم عرش الطغاة، فقد أظهرت دراسةٌ، نشرها معهد جالوب للدراسات في 2009، أن الشعوب العربية هي أكثر شعوب الأرض تديناً، والدين هو العامل الأشد فاعلية في توجيه الناس، والتأثير في خياراتهم، فهو، إلى جانب كونه أقوى دواعي الحرب، هو، أيضاً، أمضى عوامل الخضوع والتدجين، لذلك، ليس من الوارد حدوث طلاق بين السلطة وفقهائها، ما لم يعمل رجال الفكر في المجتمع على تفكيك العلاقة بين الطرفين.
عاشت أوروبا نحو ألف عام من القمع والتجهيل الذي مارسته الكنيسة من أجل تدجين الناس، وإخضاعهم لرغبات الملوك وأمراء الإقطاع، لذلك، اتجه الإصلاح الأوروبي، أول ما اتجه، إلى تفكيك المنظومة الدينية ونقد دور القساوسة، فظهرت حركات الإصلاح الديني التي تلاها عصر النهضة، فالأنوار، فالثورة الديمقراطية، والأمر نفسه بالنسبة إلى العالم الإسلامي، فالطغيان والاستحمار سيظلان قائمين إلى يوم الدين، ما لم تتحرر الشعوب من سجون الاستبداد، وتثور العقول ضد أغلال الفقهاء. الأمة، اليوم، في حاجة إلى إعادة فهم للإسلام وتأسيس دستور دول العالم الإسلامي على القيم الأخلاقية، وعلى حقوق الإنسان، حينها ستتلاشى ظاهرة فقيه السلطة، ولن تكون سوى جزء من مزابل التاريخ التي لا نتمنى أن تقوم أمة، بعدنا، بإعادة تدويرها.

B5DE41FA-C582-458B-8381-0DB8027FFEB8
زكريا بن خليفة المحرمي

طبيب وباحث في الفكر العربي من سلطنة عمان، من مؤلفاته "إستئناف التاريخ... المثقف والثورة والنظام السياسي المنتظر" و"الصراع الأبدي" و"جدلية الرواية والدراية".