نعم لجيش موحّد لاستعادة الثورة السورية

نعم لجيش موحّد لاستعادة الثورة السورية

07 يوليو 2014

طفل سوري أصيب في دوما (يوليو/2014/فرانس برس)

+ الخط -

لم تأت الحملة التي أطلقها نشطاء سوريون في مواقع التواصل الاجتماعي بعنوان "جيش موحد لاستعادة الثورة" من فراغ، بل عبّرت عن قناعةٍ، تترسخ في الوجدان الشعبي، بأن ثورتهم التي انطلقت منذ 40 شهراً انتهت، وأن الحديث عنها، وعن استمراريتها وحتمية انتصارها، شحذ للعواطف، أو هروب من الواقع.

انتهت الثورة

انطلقت الثورة السوريّة متأثرة بمناخ الربيع العربي الذي بدأت شرارته في تونس. ونتيجة تشابه في المجتمعات العربيّة، وفي بنية الأنظمة الحاكمة، رفع المحتجون السوريون شعارات الحرية والديمقراطيّة، وقدموا تضحيات جساماً، لإسقاط نظامهم الاستبدادي. ولما تعذر عليهم بلوغ غايتهم، وازداد بطش النظام ضدهم، سلكوا طريق الكفاح المسلح، بما يكتنفه من تداعيات مدمرة وآثار سلبيّة، فتشكلت الكتائب الأهلية المسلحة تحت لافتة "الجيش الحر". وكان طابع الصراع المسلح خلال عام 2011 والنصف الثاني من 2012 وطنياً خالصاً، وكانت مبادئ الثورة وأهدافها حاضرةً في خطاب المعارضة المسلحة. وعلى الرغم من تشتتها، وقلة خبرتها، وندرة تسليحها، فإنها سيطرت على معظم مناطق الحاضنة الشعبية للثورة السلمية، في الأرياف والمراكز المدينية، وطوقت النظام في العاصمة، وشكلت تهديداً جدياً له.
منذ منتصف عام 2012، تعرّجت مسارات الثورة. اختفت المظاهرات السلمية الرمزية

المساندة للعمل المسلح. تضخمت ظاهرة العسكرة، وازداد نفوذ الممولين الخارجيين وتأثيرهم. تغلغلت الحركات الجهاديّة والفصائل الإسلامية، ذات التوجه السلفي الجهادي، في العمل المسلح، وبدأت تتحكم فيه، وتوجه شعاراته لخدمة أهدافها ومشاريعها الخاصة. ومع استعصاء الصراع، وندرة الدعم الدولي المنظم للثورة المسلحة، والمشكلات البنيوية للمعارضة السورية، وعجزها عن تأطير العمل العسكري، وتوحيده تحت قيادة واحدة، بدأت الكتائب الأهليّة المتلهفة للدعم الخارجي، ولاسيما الخليجي، تغير خطابها ورموزها. لم تعد مفردات الحريّة والديمقراطية والدولة المدنية التعددية حاضرة، واستبدلت بمفردات دينية تحفيزية شعبوية، أكان ذلك في مسميات الكتائب، إلى درجة نفذت جميع أسماء صحابة الرسول (ص) أو في بياناتها، والتي ركزت على تحكيم الشرع، الجهاد لإعلاء راية الإسلام، مواجهة العدو "النصيري، الرافضي، المجوسي..".

عند تأسيسها، ضمّنت معظم الكتائب، باستثناء جبهة النصرة، وحركة أحرار الشام وبعض الفصائل الصغيرة الأخرى، علم الثورة وألوانه في رايتها (اللوغو الخاص بكل كتيبة)، فهو الراية الجامعة لسوريّة الثورة. لكن، ومع موجة التأسلم، والأسلمة، ولإرضاء واجتذات داعمين شيوخ في الخليج، أزيل، وغاب ليستبدل برايات دينية. ليس هذا فحسب، بل منعت فصائل رفعه، وتقاطعت مع رواية ودعاية النظام عنه بأنه "علم الانتداب الفرنسي". خلال عام 2013، ولإدارة المناطق المحررة، أقيمت هيئات شرعية، لتكون جسماً قضائياً للثورة، يضم مشايخ دين، وممثلين عن الفصائل الكبرى والفاعلة في كل منطقة. روج الهيئات الشرعية الإسلامية باعتبارها سلطة عليا مؤقتة، توحد الكتائب، وتتولى فض النزاعات والخصومات، وتسعى إلى إحلال الأمن في حيزها الجغرافي. لكن، فرضت قصراً على المجتمعات المحلية، ونتيجة افتقارها إلى ذراع مسلحة، تفرض سلطتها على الفصائل، فشلت في فرض الأمن، وغدت أحكامها في أحيانٍ كثيرة انتقائية وانتقامية، ولم تنجح إلا في أمر واحد، هو الحد من النشاط المدني الثوري، والتضييق والاستقواء عليه، بالاعتقالات تارة، أو فرض الأحكام والموانع على ظواهر تخص حرية الأفراد كالسفور والاختلاط .. إلخ تارة أخرى. وغدت الهيئات، في بعض صورها، نسخة مشابهة لفروع المخابرات الجوية سيئة الصيت، لاسيما بعد أن اقامت السجون والمنفردات ومراكز التوبة ..إلخ، وفرضت حصاراً غذائياً، ومائياً وكهربائياً أيضاً على مناطق مدنية، كما في حلب، بذريعة الضغط على قوات النظام التي تسيطر عليها.

مطلع أبريل/ نيسان عام 2013، دخل تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام على خط القضاء على الثورة المدنية، فبعد إعلان زعيمه دمج دولة العراق الإسلامية وجبهة النصرة، والخلاف بين التنظيمين، توسع التنظيم عسكرياً، وفرض سيطرته على المناطق المحررة. لا نبالغ في القول إن نشطاء الثورة، على اختلاف توجهاتهم، كانوا الهدف الأول للتنظيم، فهم في نظره عملاء ومخترقون ومروجون للكفر والبدع، فلاحقهم، واعتقلهم، واغتال عدداً منهم، وهجّر كثيرين منهم إلى تركيا. في عصر الحركات الجهاديّة والفصائل الإسلامية ذات الخطاب الإسلامي المزواد، أصبحت الحرية والديمقراطية كفراً وردّة، وهجوماً وضعياً على شرع الله وشرعيته يحاسب ويحاصر ويعزل من يطالب بها. حتى المحاكم الشرعيّة السابقة، والتي كانت محط انتقاد السوريين، لم تعجب تنظيم الدولة، فانبرى للقضاء عليها، وعلى من يقف خلفها من الفصائل المسلحة، وعمد إلى تشكيل محاكم خاصة، تتبع منهجه وتفسيره، تتولى منفردة مسألة إدارة المجتمعات المحلية. في ذروة الخلاف على أية محاكم شرعية يتبع السوريون، لم يعد مطلب القضاء العادل، أو استقلالية القضاء مطروحاً، وعليك، بحسب تدوينة لأحد النشطاء، "أن تختار بين محكمة تسجنك وأخرى تحكم عليك بالإعدام".

جاءت المواجهة مع "داعش" مطلع عام 2014، وطرده من مناطق عدة، لتبعث بعض الأمل في النفوس عن أن " ثورة جديدة" انطلقت على داعش وسلوكياته، ولتبعث رسالة واضحة إلى من يشاركه أفكاره، أو جزءاً منها، بأن السوريين لن يقبلوا باستبداد آخر. أثمرت المواجهة نتائج إيجابية، فتخوف الفصائل المسلحة من انقلاب الحاضنة الشعبية جعلها تراجع سلوكياتها وتصرفاتها السابقة. وضمن هذا السياق، وقعت فصائل إسلامية وثورية على ميثاق الشرف الثوري في مايو/ أيار2014، والذي نص، ولأول مرة، على مبادئ، سياسية لا دينية، تحكم العمل الثوري، وفي مقدمتها؛ احترام حقوق الإنسان، وإقامة دولة الحرية والعدل والقانون، تكفل العيش فيها لجميع مكونات الشعب السوريّ. لكن هذه الخطوة لم يكتب لها النجاح، لعدة أسباب؛ رفضه من فصائل جهادية مؤثرة في العمل العسكري، كونه لا ينص على "تحكيم الشريعة"، واتهام القائمين عليه بالتنازل والنفاق "للكفار"، في إشارة إلى الغرب، ورفضه من قبل سياسيين علمانيين وكتّاب سوريين ليبراليين، كونه صدر عن فصائل إسلاميّة غير مؤهلة "للحديث عن مبادئ ضابطة للعمل الثوري".
وفي ظل الاستقطاب السابق، وبينما كان هجوم النظام العسكري على مناطق سيطرة المعارضة يتصاعد، أقفل النقاش الذي أحدثته ظروف المواجهة مع "داعش" عن مبادئ الثورة وأهدافها في أولويات الفصائل المقاتلة للنظام. ثم جاءت أحداث العراق، وما رافقها من تداعياتٍ ميدانية في سوريّة، لجهة سيطرة داعش على الميادين والبوكمال ودير الزور، وتهيئه لاستعادة حلب، لتخلط الأوراق من جديد، وتقضي على الآمال باستعادة روح الثورة ومبادئها.

النظام كميليشيا

لا تعني نهاية الثورة انتصار النظام، فالمعادلة القائمة في سوريّة لم تعد محكومة بثنائية (ثورة – نظام). اعتمد النظام العنف والقمع نهجاً وحيداً، في مواجهة الحركة الاحتجاجية في المرحلة السلميّة. وعلى الرغم من أن الحل الأمني لم يطفئ الانتفاضة الشعبية، بل كان عاملاً محرضاً لتوسع الانتفاضة، فإن النظام لم يتخلَّ عن هذا النهج. وفي شهادةٍ، أوردها تقرير مجموعة الأزمات الدوليّة عن أحد القادة الأمنيين، حيث قال "القمع هو الحل الوحيد لمعالجة الأزمة، وعدم فاعليته، في الأشهر الأولى، لا يعني فشله خياراً، بل لأن الجرعة المستخدمة كانت غير كافية". وبناءً عليه، زج النظام بالمؤسسة الأمنية، والعسكرية، والميليشيات المدنية (الشبيحة) لمواجهة الثورة. وبدد الاعتماد المتزايد على البطش والقوة المفرطة شرعية النظام كمؤسسة حاكمة للدولة، فتحولت الدولة إلى كيانٍ تختطفه طغمة حاكمة. كان معنى ذلك أن النظام في حالة حرب مع المجتمع، وما لبثت أن تحولت إلى حرب فعلية منذ مطلع العام 2012 بعد استخدام الدبابات والمدفعية الثقيلة، وقصف المدن بالطائرات. سقطت شرعيّة الدولة ومؤسساتها في وجدان الثائرين، وتحول النظام إلى ما يشبه "قوة احتلال"، تفرض على الناس مقاومتها.

لكن، ونظراً لشمولية الثورة المسلحة واتساعها، عجز النظام عسكرياً عن وأد الثورة، وتوالت انهياراته العسكريّة أواخر عام 2012، ما شكل تهديداً حقيقياً لحكمه، لاسيما بعد التقدم العسكري المهم الذي حققته فصائل المعارضة في ريف دمشق وداخل أحياء المدينة الطرفية (القابون، برزة، ركن الدين، كفرسوسة). أدرك النظام، في الربع الأول من عام 2013، أن جيشه وأجهزته الأمنية وميليشياته لن تستطيع، وحدها، الدفاع عنه، فما بالك بحسم المعركة لصالحه. ولمواجهة الانهيار العسكري، كان لا بد له من الاستعانة بأطراف خارجيّة (ميليشيات)، خبيرة بتكتيك حرب العصابات، وتمتلك بعداً عقائديّاً تسخره وتوظفه في المواجهة. حينذاك، لاحظنا في قنوات إعلامية مؤيدة للنظام تصاعد نبرة الخطاب الطائفي، كاتهام الثوار باستهداف مقام السيدة زينب، والسيدة رقية، ونبش قبور الصحابة. لم يستخدم الخطاب الطائفي الموجّه للطائفة الشيعية، حصراً، ضمن الاستراتيجية الدعائية للنظام، بل كانت له غايات تحفيزيّة لاستقطاب مقاتلي الميليشيات الشيعية في العراق، بذريعة الدفاع عن العتبات المقدسة. وبتخطيط إيراني، وبمساعدة مباشرة وحاسمة من الميلشيات العراقيّة، نجح النظام في أبريل/نيسان 2014، في تطويق غوطتي دمشق بالكامل، وفرْض حصار مطبق عليها، فأزال الخطر المحدق بالعاصمة. بعد ذلك، بدأت المرحلة الثانية، للسيطرة على وسط سوريّة، ومنع سيطرة المعارضة على الطرق الدوليّة. تطلبت هذه المرحلة تدخلاً مباشراً من حزب الله، بدأ في القصير منتصف عام 2013، وانتهى بيبرود منتصف مارس/ آذار 2014.

على الرغم من بقائه نظرياً، نظاماً حاكماً ومؤسساتٍ تعمل، فإن بقاءه العملي أضحى مرهوناً بإرادات حلفائه الخارجيين، كإيران وروسيا. أما ميدانياً، فجزئيات الصورة توضح سيطرة فعلية ومطلقة للميليشيات العراقية الشيعية على محيط دمشق ومحيط الغوطتين والمنطقة الشرقية، وسيطرة واضحة لحزب الله على مساحات واسعة من منطقة القلمون والحدود السورية اللبنانيّة، وعلى قرى شيعية في حلب وإدلب. وقد أوضحت معركة المليحة الأخيرة مدى اعتماديّة النظام على الميليشيات الخارجيّة، فبعدما كاد يسيطر على البلدة الاستراتيجية، عاد وخسر مواقعه، نتيجة انسحاب جزء من الميليشيات العراقية، إثر التطورات الأخيرة في العراق.

من جهة أخرى، لا تزال مسألة الشرعيّة تقضّ مضجع النظام، فشرعيته سقطت وجدانياً أمام الشعب، وسقطت عند الحلفاء والأعداء في الخارج. ولا يخفى على مراقب سيل التصريحات الإيرانيّة، في الأشهر الأخيرة، والتي تنسب بقاء النظام وتغير موازين القوى لها، وللميليشيات المرتبطة إليها. ولا يخفى اندفاع النظام السوريّ لإثبات شرعيته تارة في رسائل للغرب بأنه الطرف الوحيد المؤهل لمكافحة الإرهاب، وتارة أخرى بإجراء انتخابات رئاسية "تعددية"، والاحتفاء المبالغ به برسائل تهنئة شكلية من رؤساء روسيا وإيران وموزمبيق وكوريا الشماليّة، وأخيراً بتهنئة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، والتي نشرت وكالة الأنباء الفلسطينية نصاً ذكرت مصادر أنه مزور ومختلق. اختطف النظام الدولة، ثم ولّى إدارتها ومصيرها لآخرين، فتحول إلى ميليشيا مسلحة من الميليشيات والفصائل الموجودة.

بانتفاء وجود أطرافها، لم تعد ثنائية (الثورة – النظام) قائمة، وتحولت سوريّة إلى ساحة صراع معقدة. ولعل مقولة هوبز في كتابه "لوثيان" عن "الكل في حرب ضد الكل" أبلغ توصيف للحالة السوريّة. لم يعد هناك ثورة، ولم يعد هناك نظام، وسورية الموحدة أضحت دولاً؛ دولة للنظام، دولة لداعش، دولة لحزب الله، دولة للميليشيات العراقية، دولة للنصرة، دولة في جزر معزولة للجبهة الإسلامية، دولة للأكراد، دولة لجبهة ثوار سورية والجيش الحر ... إلخ. الأمر الذي دفع نشطاء الثورة في الداخل والخارج إلى إطلاق الصرخة الأخيرة في هاشتاغ #جيش_موحد_لاستعادة_الثورة. 

026670C0-1C24-4095-BCE5-FC31C709547D
حمزة المصطفى

كاتب وباحث سوري في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وسكرتير تحرير مجلة سياسات عربية. ماجستير في العلوم السياسية والعلاقات الدولية من معهد الدوحة للدراسات العليا. صدر له كتاب "المجال العامّ الافتراضي في الثورة السورية: الخصائص، الاتجاهات، آليات صناعة الرأي العامّ".