الانقلابات العسكرية العربية: بكر صدقي أولاً

الانقلابات العسكرية العربية: بكر صدقي أولاً

20 يوليو 2014

الملك فيصل الثاني يؤدي اليمين في البرلمان العراقي (مايو/1953/أ.ف.ب)

+ الخط -

حين نستعرض، بإيجاز، تاريخ الانقلابات العسكرية في العالم العربي، ترتسم مفارقات ومشتركات كثيرة، ليس في تعليل العمل الانقلابي وحسب، بطرحه خطوة للتغيير، غايتها إصلاح الحال؛ وإنما كذلك في تشابه أمثلة النكوث بالعهد، والصرامة التي بلغت، في انقلاباتٍ كثيرة، حد نكران الصداقة، والغدر بالرفاق، ومن ثم الإسراع إلى الهاوية. ذلك لا ينفي أن انقلابات ومحاولات انقلابية كانت من النوع الحميد الذي لاقى تأييداً شعبيا، سرعان ما انتكس، أو أصبح عبئاً على المجمتع، أو لامست مسلكيات العهد الذي تأسس له الكثير من براهين الصدقية في المسعى، غير أن هذا يظل كلاماً عاماً، فلا بد من تسليط الضوء على الانقلابات العربية، واحداً واحداً، وتقديم رؤيةٍ لكل منها، بمفردات التحليل السياسي الموضوعي، في مقاربات لمحاكمة تجاربها، وتبيان موضعها في السياق التاريخي.
كان بكر صدقي، الضابط العراقي الكردي، هو الذي افتتح مسلسل الانقلابات العسكرية في العالم العربي، في التاسع والعشرين من يوليو/ تموز العام 1936. ولد الرجل لأبوين كرديين. خدم في الجيش العثماني، بعد أن تخرج من كلية عسكرية في اسطنبول، قبل أن يُعد من رهط الضباط "الشريفيين"، أي المؤيدين للثورة العربية الهاشمية، بقيادة الشريف حسين وأبنائه؛ معنى ذلك أن بكر صدقي قد توحدت مشاعره وأمنياته، مع الأكثرية العربية عموماً. أما عراقيته الغامرة، التي آنس من خلالها أهلية وجدارة، تجعلانه لا يتردد في المبادرة إلى تغيير على المستوى الوطني في العراق؛ فقد طمست الفارق بين قوميتي العرب والكرد اللتين يعيش أبناؤهما على أرض واحدة. وكان لافتاً أن رفاق بكر صدقي وشركائه لم يتوقفوا البتة عند جذوره القومية، ما يجعل من الجائز القول إن المناخ الاجتماعي العام، في بلد الانقلاب، كان يُكرّس مفهوم الشراكة في الوطن، بين كل مكوناته الدينية والقومية. فضلاً عن ذلك، فإن كل التراجم والمذكرات التي تناولت شخص بكر صدقي اجتمعت على وصفه بالحماسة العربية القومية، والصرامة فيها، إذ هو نفسه الذي تعامل بالعنف، قبلئذٍ، مع الحركات الاحتجاجية المناطقية والعشائرية، وبَطَشَ بتجمع الحراك الديموقراطي الذي سُمى "الأهالي"، ورديفه صحيفة تحمل هذا الاسم!
بواكير عثمانية
كان ضابطاً عثمانياً، راودته مشاعر السخط العربية التي شملت العرب، مسلمين من كل المذاهب والمسيحيين من كل الكنائس والأعراق. وهي على أية حال، مشاعر سخط تأججت بعد الانقلاب المشؤوم على السلطان عبد الحميد الثاني الذي طفت بعده على سطح الحياة

السياسية في مركز السلطنة العثمانية، الجمعيات السرية السابقة. واللافت، في هذا السياق، أن مصير فلسطين، والتمكين للخيار الشعبي في الإصلاح الدستوري، كانا العنصرين الأساسيين، اللذين اجتمع عليهما عدد كبير من الجمعيات والحركات، العلنية وشبه السرية، لإطاحة عبد الحميد الثاني، من "الاتحاد والترقي" العلمانية و"الطورانية" القومية المتطرفة، إلى الماسونية ويهود الدونمة الذين أججوا الفتن، وأحالوا أيام عبد الحميد الثاني الأخيرة في الحكم إلى جحيم داخل القصر وخارجه، فقد كان الرجل صلباً، حيال ضغوط الصهيونية ووسطائها لإكراهه على غض الطرف، أو المساعدة على استيطان فلسطين.
بكر صدقي، بعد أن فقد أرضيته العثمانية، وطفا العنصر القومي التركي الذي يحتقر العرب؛ التحق بفيصل الأول في الشام، قبل أن تسقط حكومته، بفعل الغزو الفرنسي الذي اتسم بالاستعلاء، والنزعة الاستعمارية الكريهة. وسرعان ما التحق برتبة ملازم، في الجيش العراقي الذي أسسته بريطانيا في العام 1920، في وقت كان البريطانيون يطرحون أنفسهم فيه متعاطفين مساندين للتحرر القومي العربي، وللفكاك من السلطنة العثمانية في مآلاتها الأخيرة.
في هذا الجيش، تدرج بكر صدقي على سُلّم المراتب العسكرية، ليصل إلى ذروتها. وازدحمت المسافة بين الملازم أول ورتبة الفريق، بأعمال إخماد أي حراك من أي مكوّن ضمن حدود العراق الحديث، التي رُسمت في غرف وزارة المستعمرات البريطانية. وهذه حدود جمعت مكوناتٍ كثيرة، ونسمع، اليوم، وفي هذه الأثناء، عبارات الاعتراض على صيغة الجغرافيا السياسية للدولة، من ممثلي هذا المكوّن، أو ذاك من العراق الحديث. ومن دواعي الأسف، أن أولى المعارك "المنتصرة" لبكر صدقي، كانت عند الانقضاض على الأقلية الأشورية في محافظتي دهوك ونينوى (حسب التقسيم الحالي)، أو في لواء الموصل، حسب التقسيم آنذاك. فقد هاجمت القوات العراقية في العام 1933 بلدة سميل الأشورية، ومعها نحو 40 قرية للأشوريين، علماً بأن المفترض أن يكون الأشوريون حلفاء طبيعيين لبكر صدقي، على اعتبار أن مأساتهم السابقة كانت بمفاعيل القوميين الأتراك الذين آزرتهم العشائر الكردية، عندما كانت تدور رحى الحرب العالمية الأولى. فقد أبيد، في تلك المأساة، نحو نصف الأشوريين. وقد تبع ذلك حملات إخماد للأكراد، وأخرى للعرب، في الفرات الأوسط.
احتقان سياسي
كان المناخ العراقي، قُبيل انقلاب بكر صدقي، يتسم بالاحتقان السياسي. فرئيس الحكومة، ياسين الهاشمي، واجه موجةً عاتيةً من المعارضة، أشبه بالموجة التي يواجهها نوري المالكي اليوم. وإن كانت موجة الأمس تشبه موجة اليوم، إلا أن الاختلاف ــ للإنصاف ــ شاسع بين الهاشمي والمالكي. للأول مآثره النبيلة، بينما الثاني بلا مآثر، بل هو ينتمي الى خط سياسي ذيلي. الهاشمي ذاك، الذي أسقطه بكر صدقي، كان سلخ سنوات طويلة من حياته مجاهداً، عندما كان الناس في المشرق العربي يرون أنفسهم شعباً واحداً. كان الهاشمي ضابطاً عثمانياً هو الآخر، شارك في حرب البلقان، ودافع عن النمسا ضد الروس، وقاتل دفاعاً عن فلسطين ضد الإنجليز، واستبسل عند خط الانسحاب الأخير على نهر الأردن، والتحق بحكومة فيصل، للدفاع عن دمشق ضد الفرنسيين، وكان الهاشمي الرجل الثاني (أي رئيس الأركان، بعد يوسف العظمة وزير الدفاع في الجيش الصغير، حديث الإنشاء التابع لفيصل)، وثمة غموض حول أصل ياسين الهاشمي الذي يقول باحثون إنه ولد هو وأخوه طه، لأبوين كرديين توفيا، فتعهدهما بالتربية عرب من النخبة الاجتماعية العراقية. وقيل إن الرجل كان داهية، إذ تدرج في المناصب ببراعة لافتة، واختلط بالوسط الملكي، حتى كاد الملك غازي يقترن بصغرى بناته "نعمت" التي أحبها، لكن رموز النظام، من خارج العائلة أحبطت الزيجة. وتتقاطع المفارقات، ويصبح منها أن ياسين الهاشمي قد أغوته تجربة كمال أتاتورك، فأراد جعل غازي، زوج ابنته، رمزاً لا يحكم. من هذه المفارقات، أيضاً، أن بكر صدقي، الصاعد على طريقة الهاشمي؛ أضمر، وتصرف على النحو الذي يحفظ للملك غازي هيبته ويُجزل له التبجيل. هنا، نكون بصدد نوعٍ من الانقلاب غير الشامل، كأنما هو نمط الانقلاب في طوره الجنيني.
شركاء
لا يُذكر الانقلاب العسكري الأول في العالم العربي، من دون تسليط الضوء على حكمت سليمان، قطب الرحى الأهم في العملية الانقلابية. فهو وزير الداخلية، قُبيل الانقلاب،

المتواطىء مع بكر صدقي، قائد الفرقة العسكرية الثانية، ضد رئيس وزرائه ياسين الهاشمي، وضد وزير دفاعه جميل العسكري، ورئيس الأركان المتنفذ، طه الهاشمي شقيق ياسين رئيس الوزراء. سافر الأخير في مهمة أرسله لها شقيقه، وأناب عنه عبد اللطيف نوري، قائد الفرقة الأولى الذي كان اتفق مبكراً مع بكر صدقي على الانقلاب. وكان مشهد الانقضاض ومركز انطلاقته بعقوبة، القريبة من بغداد في محافظة ديالى. وحضرت في السماء القوة الجوية المتواضعة (طائرات من نوع "بريدا" البريطانية و"سوفيا" الإيطالية وخمسة طيارين)، وطار في طليعة السرب قائد القوة الجوية، العقيد محمد علي جواد. وبدأ عمل سلاح الجو في الانقلاب، بإلقاء المناشير لسكان بغداد، والإيحاء بالحسم والغلبة، ثم بالقصف الذي أردى عدداً قليلاً من الضحايا!
ذهب وزير الدفاع، جعفر العسكري، إلى حتفه بنفسه، من خلال مسعى تصالحي، حاول فيه أن يجد قاسماً مشتركاً على قاعدة الولاء للملك غازي، مع التضحية بياسين الهاشمي. غاب عن ذهن العسكري أنه لن ينجو باعتباره صهر نوري السعيد، وزير الخارجية المقرب من الإنجليز. اتصل ببكر صدقي، وأبلغه أنه يحمل له رسالة من الملك، فتظاهر صدقي بالموافقة، وتحدد مكان اللقاء. ومع وصول وزير الدفاع، جرى تجريده من السلاح، هو ومن معه، وتم إعدامهم رمياً بالرصاص.
في تلك الأثناء، تحرك وزير الداخلية، حكمت سليمان، إلى قصر "الزهور" الملكي، لتسليم الملك إنذاراً، مدته ثلاث ساعات، وقّع عليه قائدا الفرقتين الأولى والثانية، عبد اللطيف نوري وبكر صدقي، وكانا يطلبان فيه إقالة وزارة ياسين الهاشمي. كان الإسقاط للحكومة، وليس لرأس النظام السياسي.
كان حكمت سليمان، وهو شركسي، العقل المدبر للانقلاب الذي لاقى، في بدايته، الترحيب من الطيف السياسي العراقي، يميناً ويساراً. فقد جرت التظاهرات المؤيدة للانقلاب في جميع أنحاء العراق، واعتبر الشيوعيون أن الحكومة التي سقطت فاشية، ضيّقت الخناق على القوى الديموقراطية. وساعد على التأييد الشعبي أن الوزارة التي شكلها الانقلابيون من رموز

إصلاحية، أطلقت السجناء، وأعلنت عن إطلاق حرية الصحافة، وحرية التنظيم الحزبي والنقابي، كما أعلنت عن إصلاحات في الإدارة والزراعة والصناعة، وبشرت بتوزيع أراض على الفلاحين المُعدمين. لكن الأمور تغيرت، بعد أن استطاع بكر صدقي، من موقعه رئيساً لأركان الجيش، التحكم في الخط العام لسياسة الدولة. فقد جرى حل المجلس النيابي المنتخب، وأُكره القصر على إصدار المرسوم الملكي بذلك. وكان الأمر الطريف ــ المرير الذي جرى، وبات من سنن ما بعد الانقلابات؛ أن بكر صدقي، رئيس الأركان، تولى بنفسه تهيئة الدولة لعملية انتخابية، تُلح في طلبها بريطانيا. فقد عقد مع فريق من ضباطه وعدد من القوميين اجتماعاً في داره، لوضع الترتيبات "اللازمة" للانتخابات العامة. أعد قوائم المرشحين على قاعدة الولاء له، مستبعداً رفاقه الإصلاحيين. وأجريت الانتخابات في 20 فبراير/شباط 1937 لتأتي النتيجة كما خطط لها بكر صدقي.                                                         
الرصاص ضد المتظاهرين
بعد الانتخابات. بعدئذٍ، أخذت الأوهام بكر صدقي إلى مسار يصل به إلى السلطة المطلقة، متنسماً خطى كمال أتاتورك. ومع ظهور هذا المنحى جلياً، استقال الإصلاحيون القلة في الحكومة، وهم من اتكأ عليهم بكر صدقي، للوصول إلى غاياته. كانت تلك الاستقالة بداية اهتراء موقف رجل السطة القوي. وما جرى بعدها، يكاد يكون هو نفسه الذي يجري، الآن، في تجربة نوري المالكي. فقد انتفضت العشائر في السماوة، مركز محافظة المثنى جنوباً على الطريق بين بغداد والبصرة. ومثلما كان انقلاب بكر صدقي الأول عربياً، فإن استخدام الرصاص الحي لقتل المتظاهرين، كان السابقة الأولى في وقائع مشابهة، أوقعتها انقلابات أخرى لاحقة لازمت التاريخ العربي المعاصر. أصيب الشعب العراقي بخيبة أمل كبرى، من سلوك الانقلاب الذي رحب به. واستغل الإنجليز الموقف، ورأوه فرصة سانحة، فأضمروا له شراً. فقد أدارت السلطة رأس بكر صدقي، مرة يَعدُ بانتخابات جديدة، بعد انسحاب الوزراء من حكومته، ولجوئه إلى ترقيعها، المرة تلو الأخرى، ومرة يشدد من قبضته، وهو يضرب

الحراك الشعبي.
ومن سخريات الأقدار والتداعيات أن نشوة الحكم أنسته حساسية الإنجليز من الألمان، فلم يتردد في إعلان زواجه من غانية ألمانيةٍ لم ير من أمرها سوى ملاحتها، فانزعج الإنجليز الذين افترضوا أن تكون الفتاة جاسوسةً للنازية في بلادها، لا سيما وأن مكانة السفير الألماني في بغداد تعززت بعد الاقتران. ولم يُخطىء الانجليز في توقعاتهم، لأن السفير الألماني (فريتس كروبا) فتح أبواب بغداد على مصاريعها للألمان، وأدخل بكر صدقي في خطط إقليميةٍ، تعاند التدابير البريطانية، كان منها دعم فكرة تأسيس دولة للأكراد في مناطقهم داخل الأراضي التركية والعراقية والإيرانية. ولهذا الغرض، وصل إلى العاصمة العراقية رئيس الأركان الألماني، هانيس، وبدأ استبعاد الضباط الموالين لبريطانيا. عندئذٍ دُبر الموت البليغ، ليس لبكر صدقي وحسب، وإنما لمليكه غازي نفسه، لكي يتغير طربوش السلطة من أعلاه إلى جذعه. فقد رُتبت دعوة رسمية لبكر صدقي، ورفيقه قائد القوة الجوية، محمد علي جواد. توقف الرجلان في قاعدة جويةٍ، وعند جلوسهما في شرفة مقصف القاعدة، تقدم منهما القاتل في إهاب النادل. أخرج مسدسه، وأطلق الرصاص على رأس بكر صدقي، ثم على رأس محمد على جواد، فقُتلا في الحال. ثم أوصلت الخيوط التي تقصت خلفيات الاغتيال الذي نفذه عريف في القاعدة، يُدعى محمد التلعفري، إلى حقيقة أن الاستخبارات البريطانية هي مدبرة الاغتيال.
أما المرحوم الملك غازي، كاره الانجليز حتى النخاع، الذي أزمع على توحيد الكويت مع العراق، خلافاً للرسم الجغرافي البريطاني؛ فقد كان التدبير من خلال اصطدام سيارته بعامود كهرباء.
كأن سمة معظم الانقلابيين، هو المكوث داخل معنى الانقلاب وفي قفصه. بعضهم يخرج من المعنى ومن القفص، فيفشل أو ينجح. يختلف الأمر حسب قدرة الانقلابي على فهم السياسة في الإقليم، وفي العالم، وقدرته على فهم الاجتماع السياسي. بكر صدقي كان ضابطاً ممتازاً في مهنته، لكنه لم يفهم المجتمع، ولا الإقليم، ولا العالم، بل إنه لم يعرف كيف يتزوج!