فضائح الردّة في الفضاء العربيّ الإسلاميّ

فضائح الردّة في الفضاء العربيّ الإسلاميّ

26 يونيو 2014

المحكومة بالإعدام مريم إسحق وزوجها

+ الخط -

يهرش المرء رأسه مراتٍ، وربما يضطر للطم خدّه مرات أيضاً، حتى يتأكد أنه في صحوٍ، وليس في منام، حين يسمع حديثاً عن الردّة في العصر الحديث. الحديث عن الردّة وتقديم الناس إلى المحاكم بتهمة الردّة لا يحدث في أي بيئة جيوسياسية في عالم اليوم، إلا في بعض مناطق البيئة العربية الإسلامية. ويمكن القول، من الناحية التاريخية، إن محاكمة الأفراد على أساس الاعتقاد ممارسة اتّسم بها الفضاءان المسيحيّ والإسلاميّ، دون سواهما من الفضاءات الثقافية في كل العالم، غير أن الفضاء المسيحي الذي تمثل الدول الغربية منه مركز الثقل تخلى عن هذه الممارسة، منذ أن أجبر فكر التنوير والثورات الأوروبية الكنيسة والفكر الديني على الابتعاد عن السياسة، وعن التدخل المباشر في شؤون الحكم. وهكذا، بقيت النزعة التكفيرية منحصرةً في الفضاء العربيّ الإسلاميّ وحده، حيث أخذت منحيين: الأول فئويّ يمثله بعض علماء المسلمين والجماعات الإسلامية المتطرفة بمختلف تكويناتها. والآخر تمثله جهات حكومية رسمية، وانحصر في أكثر الدول الإسلامية اضطراباً وتخلفاً، من حيث البنى السياسية والاقتصادية، كالسودان وأفغانستان.

ظاهرة التكفير قديمة في الفكر الإسلامي، وتدل على عللٍ بنيوية في التفكير الإسلامي، وليس في الدين الإسلامي. فلقد رزئ الدين الإسلامي بأتباعه أكثر بكثيرٍ مما رزئ بخصومه. فقد ورد عن عبد الله بن عمر عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "إذا قال الرجل لأخيه يا كافر، فقد باء بها أحدهما". وجوهر هذا الحديث التحذير المغلظ من أن يندفع المسلم في إطلاق أحكام التكفير على الناس. ولا غرابة في هذا، فالقرآن الكريم يقول: "وقل الحق من ربكم، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر" وورد فيه أيضاً: "أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله، وهو أعلم بالمهتدين"، وورد فيه أيضاً: "فذكّرْ إنما أنت مذكر، لست عليهم بمسيطر". وهذه فقط بضع آيات مختارة من القرآن الكريم، تؤكد على حرية الضمير وحرية الاعتقاد. إذن، نزعة التكفير لا يقف وراها سندٌ ديني أو عقلي، وإنما وقفت وراءها دائماً دوافع شخصية كيدية، أو دوافع سياسوية، كما جرى للمتصوفة الذين عارضوا السلطة الزمنية، وتجمّع حولهم الناس، وأصبحوا بذلك مهدداً لنظام الحكم.

وللتدليل على اعتباطية أحكام التكفير في التجربة التاريخية الإسلامية، يكفي أن نشير إلى أن الأئمة الكبار أنفسهم قد جرى تكفيرهم. روى البخاري في تاريخه الصغير أن سفيان الثوري قال، حين بلغه نعي أبي حنيفة: "الحمد لله. كان ينقض عُرى الإسلام عروةً، عروة، ما وُلد في الإسلام أشأم منه". أيضاً، روى إبراهيم بن سعيد الطبري أنه سمع معاذًا بن معاذ يقول: سمعت سفيان الثوري يقول: "أُستتيب أبو حنيفة من الكفر مرتين". فإذا كان كبار الأئمة قد جرت استتابتهم من الكفر، فمن يا ترى من المسلمين يمكن أن يسلم من مثل هذا الاتهام الاعتباطي العشوائي؟

أما في العصر الحديث، فقد جرى تكفير حيدر حيدر على روايته "وليمة لأعشاب البحر"، وتكفير نصر حامد أبو زيد، بل جرى قتل فرج فودة نتيجةً للتأليب ضدّه. والشيخ محمد الغزالي الذي يعتبره كثيرون نموذجاً للاعتدال ذكر في شهادته في محاكمة قتلة فرج فودة أن قاتل المرتدّ، خارج نطاق القضاء، مُفتئت على السلطة، أي أن من الممكن أن نحكم بردّة أحد، وأن نقتله بسبب الحكم عليه بالردّة. كل ما في الأمر أن السلطة الحاكمة هي التي ينبغي أن تنفذ الحكم. أما إذا نفّذ فرد ما ذلك خارج نطاق القضاء فإنه يحاكم على الافتئات على السلطة، أي تولي مهامها بغير تفويضٍ منها، وليس لأنه قتل مرتداً، لأن ذلك طبيعي! أما في السودان، فقد جرى الحكم بردّة الأستاذ محمود محمد طه، وجرى إعدامه شنقاً في مشهدٍ مفتوح للجمهور في 18 يناير/كانون ثاني 1985. ما جرى ذكره ليس سوى بضع نماذج من النطاق السنيّ، وفي النطاق الشيعي، أفتى الإمام الخميني بقتل الكاتب سلمان رشدي، بسبب روايته "آيات شيطانية". وقال السيد حسن نصر الله أمين عام حزب الله اللبناني، عقب تفجر حادثة الرسوم الكاريكاتورية، لو نفذ أحد فتوى الإمام الخميني لما تجرأ هؤلاء السفلة للإساءة إلى النبي الكريم.

ما جرى في السودان من إدانةٍ قضائية بالردّة على الطبيبة مريم اسحق، والحكم عليها بالجلد مائة جلدة، باعتبار زواجها من زوجها المسيحي زنا، ثم قتلها بعد ذلك، لارتدادها عن الدين الإسلامي، على غرابتها، وضعف حيثياتها، والتباسها، ليست بدعاً في الفضاء العربي الإسلامي. هناك مشكلة بنيوية في التفكير الإسلامي، لم يستطع الاجتهاد الإسلامي النفاذ إلى جذورها ومعالجتها. ولربما أمكن القول إن أغلبية من يصيغون فكرهم في إطار الخطاب الديني، ممن يوصفون بالاعتدال، ليسوا في حقيقة أمرهم معتدلين، وإنما فقط يملكون قدراً من الدبلوماسية والتقية، لا يملكه المتطرفون.

يقر الدستور الانتقالي السوداني لسنة 2005 بحرية العقيدة. وهذه تعني، في ما تعني، أن من حقك أن تغير دينك، إن رأيت ذلك. وهذا عين ما نص عليه القرآن الكريم: "وقل الحق من ربكم، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر". فلماذا، إذن، دسّ الإسلاميون السودانيون، بقيادة حسن الترابي، حين كان نائباً عاماً في فترة حكم جعفر نميري، قانوناً للردّة ضمن قانون العقوبات؟ (بعد أن أصبح الترابي معارضاً، غيّر رأيه في مسألة الردّة). ثم لماذا بقي هذا القانون ضمن قانون العقوبات، على الرغم من تناقضه الكلي مع نصوص الدستور؟ إذن، هي السياسة، وليس الدين.

المؤسي في المخرج الذي خرجت به الحكومة السودانية من قضية مريم، أنها تراجعت بسبب الضغوط الدولية، والحرج البالغ الذي وقعت فيه وزارة الخارجية، وسوء السمعة الذي جلبته القضية للبلد ولأهله. فالحكومة ونظامها القضائي الذي يعينه رئيس الجمهورية لم تكن بحاجة، أصلاً، لأن تضع نفسها في هذا الجحر الخرب، خصوصاً بعد أن دعت إلى حوارٍ وطنيٍّ شامل.

خلاصة القول، إذا لم يتم إخراج مادة الردّة من القانون الجنائي السوداني، ستطل علينا حتماً قضية ردّةٍ جديدةٍ. فما جرى كله لم يتعدَّ علاج الأعراض، ليصل إلى المرض الذي يتمثل في أمرين: أحدهما وجود مادة الردّة في القانون الجنائي السوداني، تخالف، صراحة، ما ينص عليه الدستور. ثانيهما ضمور الاجتهاد الذي يمكن أن يقدّم الإسلام، كما هو في جوهره الخالد، بما يتناسب مع السياق العصري.