المواطَنَة العراقية ... غير مكتملة وفي مهب الحروب

المواطَنَة العراقية ... غير مكتملة وفي مهب الحروب

22 يونيو 2014

الملك فيصل الأول.. سعى إلى هوية عراقية وطنية جامعة

+ الخط -
يتعدّى مفهوم المواطنة قيم حب الوطن والانتماء إليه، فهو، بالمطلق، يرتكز على جملة شروط، تؤدي، بالضرورة، إلى أن يصل الإنسان إلى مرحلة حب الوطن والانتماء إليه، شعورياً وجسدياً حتى. وهي شروط، إن غابت، غالباً ما تنتج مجتمعاً معوقاً، يعيش فيه الناس كراهية، وتبقى أعينهم مصوبة نحو الباب الخارجي لتلك الحدود، أملاً في العثور على الوطن، الوطن الحلم.
يرى جان جاك روسو، في كتابه "العقد الاجتماعي" أن للمواطن حقوقاً إنسانية، يجب أن تقدم إليه، وهو في الوقت نفسه، يحمل مجموعة مسؤوليات اجتماعية يلزم عليه تأديتها. والمواطن الفعال، كما يرى روسو، هو الفرد الذي يشارك في رفع مستوى مجتمعه الحضاري، عن طريق العمل الرسمي الذي ينتمي إليه، أو العمل التطوعي.
وأنت تجيل نظرك بين سطور روسو، تتساءل، أين هي المواطنة في عالمنا العربي؟ بل أين هو المواطن الفعال؟
سيكون العراق حالةً جديرةً بالمتابعة لمفهوم المواطنة، فبلد كان من أوائل البلدان العربية التي نالت استقلالها، وشكلت حالتها الوطنية الجديدة بين مزيجٍ من الاختلافات التي كانت تشكل شعبه، وصولاً إلى وقتنا الحاضر، حيث كان العراق على موعد مع احتلال أميركي، ساهم، بشكل كبير، في تفتيت منظومة اجتماعية، كانت قائمة، وهي، اليوم، تسير صوب المجهول.
ربما ظل المواطن العراقي ضعيف الانتماء إلى هذا الكيان الذي أسس في عام 1921، تحت مسمى المملكة العراقية، والتي كانت نواة تجربة كان يمكن أن تشكل حالة وطن قادرٍ على أن يجمع تحت لوائه اختلافات وعاداتٍ، وحتى لغات وأدياناً، تعيش على كامل ما بات يعرف العراق، عقب اتفاقية "سايكس بيكو" التي تقاسمت تركة الرجل العثماني المريض.
ظل انتماء العراقيين إلى مناطقهم وعشائرهم ومذاهبهم أكبر بكثير من انتمائهم إلى الوطن الوليد، فحتى العاصمة بغداد، تحولت شيئاً فشيئاً إلى بؤر استيطانية، بعضها عشائري، والأمثلة في هذا عديدة.
الملكية والمواطنة
أدرك الملك فيصل الأول تلك الحقيقة، وهو الذي سارع، بعد جولة بين مختلف أنحاء العراق، الى الحصول على بيعتهم، أن هناك شعباً مختلفاً في كثيرٍ من يومياته، اختلافات بعضها عائد إلى الدين وآخر الى العرق وثالث الى المذهب ورابع الى الجغرافيا، فما كانت بغداد ترتدي ما يرتديه ابن البصرة، ولا كانت أربيل تعرف لغة ابن الناصرية.
ربما يقول قائل: إن هذا الوضع ربما ينسحب على دول عربية عديدة، وهذا صحيح، غير أن حالة العراق كانت مختلفة تماماً، كونه قام على نظرية الخليفة الثاني عمر ابن الخطاب، الذي فتح بلاد العراق، واعتمد على مبدأ حرية المعتقد، وترك للناس عاداتهم ودياناتهم وتقاليدهم، إلا من أحب أن يدخل في الإسلام. وعلى الرغم من دخول أفواج كبيرة من سكان العراق في الدين الجديد، إلا أن بعضهم بقي يمارس ديانته وعاداته، بعيداً عن الفاتحين الجدد ودينهم، والذين بدورهم حفظوا لهؤلاء صوامعهم وكنائسهم وأديرتهم، فوجدنا، بعد أكثر من 1400 سنة من فتح العراق، ديانات لا يمكن أن تجدها إلا في العراق، كالصابئة المندائية.
اعتاد الناس في العراق على هذا التنوع والاختلاف، ولم يكن يشكل لهم عائقاً. صحيح أن من مارس الحكم شعر بوطأة كبيرة، إلا أن القاعدة الشعبية التي لم تكن منسجمة في نظر الحاكم، الملك فيصل الأول، كانت تعيش متآلفة، وسجل التاريخ القريب تداخلاً عشائرياً في العراق كبيراً، وكبيراً جدّاً، الأمر الذي كان يمكن أن يسجل حالة قادرة على أن تبني بلد المواطنة، ولكن ...
مما تذكره المصادر التاريخية أن الملك فيصل الأول، وسعياً منه لبدء تشكيل هوية وطنية جامعة، اعتمد ارتداء الفيصلية، أو السدارة على الرأس، وهي غطاء نصف مقوس، ومدبب تقريباً من الوسط، وتكون مطويةً إلى طيتين للداخل، ويغلب عليها اللون الأسود، وهو اللون الرسمي، إلى جانب ألوان عديدة.
كانت السدارة محاولة من فيصل الأول، لإيجاد صبغة وطنية لمختلف شرائح المجتمع، فتم تعميمها، أولاً، على الموظفين، قبل أن تنتقل إلى عامة الشعب، وبقي بغداديون كثيرون يعتمرونها حتى وقت قريب. وتعكس هذه المحاولة من الملك فيصل شعوره بضرورة إيجاد صيغ مشتركة تكون عاملاً مساعداً للتقريب، وتشكل أرضية خصبة لبذر مشروع وطن جامع، وطن ومواطنة صالحة.
انتماء وجداني وكفى
مفيد أن نؤكد، هنا، بأن هناك انتماءً وجدانياً لا يخفى على أحد، انتماء لا يمثل العراق وحده، وإنما عموم الإنسان العربي، المعروف بوجدانيته العالية، وهنا لابد من القول إن العرب ظلوا مرتبطين بأوطانهم وجدانياً، حتى بعد أن رحلوا عنها، وتحدثنا قصائد الوجد والحنين عن حالات لا تعد ولا تحصى، غير أنه يبقى انتماءً وجدانياً، قد يكون، في أحيان كثيرة، سلبياً، فالمواطن الفعال لا يبدو أنه نضج في عالمنا العربي بعد.
عندما انتقل العراق إلى الجمهورية، إثر الانقلاب العسكري على الملكية في عام 1958، دخل الانتماء إلى الوطن في مفهوم آخر، بعيد كل البعد عن محاولات المؤسسين الأوائل من الأشراف الهاشميين، فبدلاً من محاولات ترسيخ الانتماء إلى الوطن التي تبخرت، بات مفهوم الانتماء إلى الوطن يرتبط ارتباطاً كبيراً لدى قادة العراق الجدد بالإيمان بأفكارهم، والتي ستتحول، لاحقاً، إلى وطن وانتماء، ويستحيل الوطن إلى كومة من أحزاب وأيدولوجيات، تتصارع بينها، قبل أن يتم تجريد الوطن نفسه من وطنتيه التي كان يجب أن تبقى، وتبنى عليها أسوار من الانتماء، وصولاً إلى المواطن الفعال، المنتج القادر على أن يخلق أبجدية وطن، بعيداً عن الوجدانيات التي لا تقدم شيئاً.

عندما استحوذ العسكر على السلطة في عراق ما بعد 1958، لم تعد هناك فرصة للتفكير بالانتماء إلى الوطن، فلقد تحول الوطن إلى ساحة صراع بين فرقاء عدة، كلٌّ بات يرى الوطن والانتماء إليه، من زاوية أفكاره وأيدولوجياته، فالحاكم خائن وديكتاتور وتسلطي، وهو الوطني الذي يريد بناء وطن المستقبل الذي يتسع لكل أبنائه، من وجهة نظر المعارضين، وهؤلاء خونة يتعاملون مع الأجنبي خدمة لأسيادهم، من وجهة نظر الحاكم، وبين هذا وذاك، ضاع الوطن، وبدأ الشعور بانتماء الإنسان ومواطنه إلى مؤسسات الدولة يتضاءل، حتى باتت تلك المؤسسات، في نظر كثيرين، مؤسسات الحاكم، وهذا ما يفسر قيام بعضهم بردة فعل انتقامية تجاه مؤسسات عدة، عقب احتلال بغداد عام 2003، وإسقاط حكومتها.
عندما تجول بين أرشيف ما كان يعرف بالأغاني الوطنية في العراق، وتحديداً بعد اندلاع الحرب العراقية الإيرانية، تكتشف أن جزءاً كبيراً منها كانت تمجد الرئيس الراحل صدام حسين، وليس لها من الوطن نصيب، حالة تعكس المزاج الذي بدأ يترسخ تدريجياً، حتى وصلنا إلى حالة أشبه بالتوحد بين القائد والوطن، فالوطن هو القائد، كما أن القائد هو الوطن، وقس على ذلك.
مواطنة لم تكتمل
بعد عام 2003، ودخول القوات الأميركية الغازية إلى العراق، انكشفت حقائق مدينة بغداد، العاصمة، التي لم تتحقق، خصوصاً بعد أن بدأت عمليات سطو استهدفت مقار ومؤسسات حكومية، بعضها كان بدافع الانتقام من الدولة، لا من الحكومة والنظام الذي سقط، كون عراقيين عديدين لم يكونوا قد تدربوا، أو تربوا على التفريق بين النظام والدولة، النظام الذي يمكن أن يزول تحت أي ظرف، والدولة التي يجب أن تبقى تحت أي ظرف.
بالإضافة إلى ذلك، وبعد أن تفشى الموت وعمليات الاغتيال، بدأ الانحياز الطائفي والمناطقي والعشائري، ليس حباً في هذا النوع من الانحياز، ولكن، إجباراً عليه، فلم تعد الأنظمة التي تعاقبت على حكم العراق بعد 2003 قادرة على أن تطرح نفسها دولةً لكل مكوناتها، كما أنها فشلت في حماية أرواح العراقيين، بل كانت، في أحيانٍ كثيرة، الفاعل الأكبر في استهداف مواطنيها.
كانت الحرب الأميركية لاحتلال العراق آخر مسمار في نعش مواطنةٍ عراقيةٍ لم تكتمل بعد، فصار الوطن في الغربة والغربة في الوطن، فالمواطنة، وقبل أن تكون واجبات، هي حقوق، فما بالك بنحو 35 % من العراقيين يعيشون تحت خط الفقر، ناهيك عن ملايين تعيش مهددة في بلد غاب فيه الأمان، وضاعت فيه الهوية الوطنية، بعد أن أصبح عنوان ساسته العمالة للخارج.
لم ينجز العراق مواطنته، ولم ينجح في إيجاد الإنسان القادر على أن يكون مواطناً فعالاً، ولعل "أني شعليه" باللهجة العراقية الدارجة، وتعني "لا علاقة لي" اختصرت حالة العراقيين بعد احتلال وطنهم، حيث أضحى كل عراقي ينأى بنفسه عن أي شيء، خوفاً، أو عدم شعور بالانتماء.
يسير العراق، اليوم، نحو أن يفقد مواطنيه، ليس قتلاً وتهجيراً واعتقالاً وحسب، بل انتماءً أيضا، فأجيال التسعينات التي لا تتذكر من وطنها سوى سني الحصار، بعد ذلك سنوات الاحتلال الأميركي البغيض، تشعر أنها غير محظوظة، فلا تحتفظ ذاكرتها بشيء من بريق وطنٍ، كان هناك اسمه العراق.

 
96648A48-5D02-47EA-B995-281002868FD0
إياد الدليمي
كاتب وصحافي عراقي. حاصل على شهادة الماجستير في الأدب العربي الحديث. له عدة قصص قصيرة منشورة في مجلات أدبية عربية. وهو كاتب مقال أسبوعي في عدة صحف ومواقع عربية. يقول: أكتب لأنني أؤمن بالكتابة. أؤمن بأن طريق التغيير يبدأ بكلمة، وأن السعادة كلمة، وأن الحياة كلمة...