وصفةٌ لمستقبلٍ قاتم!

وصفةٌ لمستقبلٍ قاتم!

02 يونيو 2014

داعش تعلن عن نفسها شمال حلب(يناير 2014/فرانس برس)

+ الخط -
راودت الشكوك والهواجس قيادات تنظيم القاعدة كثيراً في الأشهر الأولى من عمر الثورات الديمقراطية العربية، في العام 2011، بأنّ ما تطرحه هذه الثورات من مسار تغيير سلمي ناجع نحو الديمقراطية، والتخلص من الأنظمة العربية، بمثابة "ضربة شرسة" لما يقدمه التنظيم من أيديولوجيا تأسست على فرضياتٍ، تؤمن بالعمل المسلّح وبأنّ المطلب الجماهيري هو إقامة دولة إسلامية، وأولوية المواجهة مع الغرب (العدو البعيد) على الأنظمة القائمة (العدو القريب)!
لمواجهة هذه الهواجس، ومحاولة التغلّب عليها، رأينا في تلك الفترة المبكّرة مقالات متعددة لشيوخ القاعدة وقياداتها، مثل أسامة بن لادن نفسه (قبل مقتله)، وأيمن الظواهري، وأبي يحيى الليبي وأنور العولقي (قبل مقتلهما)، وأبي محمد المقدسي في الأردن، تتحدث عن هذه الثورات، وتحاول التجسير بينها وبين خطاب القاعدة، وتصورها الأيديولوجي، والتأكيد على أنّها تتكامل مع مجهود القاعدة في تحرير المجتمعات العربية من الاستبداد الداخلي والهيمنة الخارجية.
في نهاية اليوم للحظة تاريخية خاطفة، بدت القاعدة في حالة من الاهتزاز والضعف، بعدما اهتزّ خطابها الأيديولوجي كثيراً، بفعل هذه التحرّكات السلمية الجماهيرية التي تطالب بالديمقراطية، وربما جاء مقتل زعيمها الأول أسامة بن لادن، في الفترة نفسها، كأنّه مؤشّر آخر على أنّ مرحلة التراجع بدأت!
لم تدم هذه الشكوك طويلاً، إذ قُلبت الأمور رأساً على عقب، لاحقاً! فبدلاً من المسار التنازلي، والتآكل والانحسار، دخلت القاعدة في مرحلة صعود جديدة، إذ ساعدت الحرب السورية الداخلية (وما اقترفه النظام من جرائم مروّعة، بالتواطؤ مع حزب الله والنظام الإيراني، وفي ظل صمت وعجز المجتمع الدولي عن توفير أي قدر من الحماية للشعب السوري) على تأسيس بيئة خصبة للقاعدة، ليس فقط في سورية وحدها، بل في المنطقة بأسرها.
أصبحت سورية، اليوم، بمثابة "الأرض الموعودة"، بالنسبة لمن يؤمنون بخطاب القاعدة والسلفية الجهادية، فمن الأردن وحده، تسلل (أغلبهم عبر الحدود التركية) ما يزيد على 1500 شاب، ومن المغرب العربي آلاف، ومن مصر وليبيا مئات، ومن العراق مئات، وحتى من أوروبا وأميركا ذهب المئات، وتنامت القاعدة هناك، حتى أصبحت الرقم الصعب في المعادلة العسكرية، وتجاوزت قوتها ما حققته سابقاً في العراق، حينما برز أبو مصعب الزرقاوي، وصعد نجمه هناك.

لو تجاوزنا هذا الشقّ الوصفي، وانتقلنا إلى استقراء المرحلة المقبلة، فماذا نتوقع في ضوء المؤشرات الراهنة؟
ربما يضع مراقبون كثيرون المشهد السوري في مقدّمة العوامل المؤثرة في رسم مسار القاعدة وأخواتها (مثل داعش)، فنحن أمام ساحة داخلية خصبة، للسوريين والقادمين من الخارج، وتلهم، أيضاً، أنصار التيار السلفي الجهادي، في مختلف أنحاء العالم، وطالما أنّ أغلب التوقعات ترجّح أنّنا أمام أعوام أخرى من الفوضى الأمنية والسياسية والعسكرية هناك، فذلك يمنح هذه التنظيمات "فرصة ذهبية" أكبر للصعود.
أهمية ما يحدث في سورية تتجاوز الحالة الداخلية، فما يحدث في سورية أثّر على أغلب المجتمعات العربية، إذ ساهمت الثورة السورية في ردّ الروح والقوة إلى التنظيم في العراق، وتزاوج تأثيرها مع سياسة رئيس الوزراء، نوري المالكي، لإنتاج انتفاضة الأنبار، ثم الحرب الشرسة التي ما تزال تدور رحاها في غرب العراق بين السنة والجيش العراقي، وامتدت تلك التداعيات إلى تقوية التيار الجهادي في لبنان والأردن، بصورة واضحة وكبيرة.
خطورة الحالة السورية تتمثّل في أنّها تتأسس على صراع عقائدي ديني طائفي، عابر للحدود، في ظل انهيار التوافقات والهويات الوطنية الجامعة، لصالح تلك الهويات الفرعية، ولو نظرنا، من زاوية أخرى، سنجد أنّ المجتمعات السنّيّة (نتحدث هنا من منظور ديمغرافي وسياسي، لا طائفي) أصبحت مكشوفة سياسياً وعسكرياً في صراعها مع المحور الآخر (إيران، حزب الله والنظام السوري)، ما يجعل من البديل الواقعي الدفاعي لهذه المجتمعات هو تلك التنظيمات والمجموعات التي تنتمي إلى "فصيلة القاعدة"، وأصبحت تملك خبرة عسكرية كبيرة، ولديها خطاب عقائدي صلب، يقدم إجابات سهلة وبسيطة، تتجاوب مع حالة الاحتقان والغضب وفقدان الأمل!
بالرغم من هذه الدور الخطر والكبير الذي ساهمت فيه الأحداث السورية في تعزيز وتصعيد الجماعات والخطاب القاعدي الراديكالي في المنطقة، إلاّ أنّ ما يحدث في مصر من حظر جماعة الإخوان المسلمين، والزج بقياداتها في السجون، والعودة إلى الحكم العسكري، والأحكام القضائية الرهيبة غير المسبوقة ضد معارضي الانقلاب؛ سيعزّز، في الفترة المقبلة، بدرجة كبيرة نزوع نسبة كبيرة من الشباب الإسلامي إلى أحضان أيديولوجيا القاعدة ورؤيتها السياسية والدينية!
قرار الحكومة المصرية وخطاب الإعلام المصري، ثم قرار دولتين خليجيتين بحظر جماعة الإخوان المسلمين، واعتبارها إرهابية، كل ذلك يؤول إلى نتيجة واحدة، هي أنّه لا يوجد هناك إسلام معتدل وآخر متطرف، وأنّ الديمقراطية لا تقبل بالإسلاميين، حتى لو قبلوا هم بها، وأنّ الردّ على الدعوة السلمية في ميداني رابعة العدوية والنهضة في القاهرة بالنار والقصف والمذابح، وأنّ الطريق نحو الديمقراطية مغلق اليوم؛ ما يعني أنّ البديل الوحيد المتاح أمام الشباب الطامح في التغيير هو العمل السرّي والمواجهة المسلّحة!
ليس المستقبل القريب قاتماً بالضرورة، لكن هذه المؤشرات والمعطيات تعطي رسالة واضحة وصريحة بأنّ البديل عن إنتاج أنظمة ديمقراطية تعددية ليس النجاح بالعودة إلى وصفة ما قبل حقبة الربيع العربي، بل هو صعود تيارات إسلامية راديكالية تنتمي إلى فصيلة القاعدة، بل تتجاوزها إلى مرحلة "داعش"، أي ما بعد القاعدة!
الثورة المضادة في العالم العربي وصفة للخراب والدمار، وليس للاستقرار والأمن، كما يتوهّم الحالمون بوقف عجلة التغيير في العالم، والإبقاء على الشعوب تحت وصاية أنظمة، اهترأت بالفساد والاستبداد، وافتقادها الحاكمية الرشيدة في الإدارة والحكم والممارسة!
محمد أبو رمان
محمد أبو رمان
أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأردنية والمستشار الأكاديمي في معهد السياسة والمجتمع.