إلياس خوري .. أخطأت

إلياس خوري .. أخطأت

16 مايو 2014

Jamie Grill

+ الخط -
لا يحتاج إلياس خوري إلى التأشير إلى مكانته في الراهن الثقافي العربي، لما راكمه من حضورٍ لافت في خريطة المُنجَز السردي العربي والكتابة النقدية والفاعلية الثقافية، وقبل ذلك وبعده، لثبات مواقفه على تقدميّتها الأخلاقية والوطنية والإنسانية، وقد انحازت، دائماً، إلى الحق والحرية والديموقراطية وكرامة الإنسان. ولأن إلياس خوري هو هذا، وإنْ بإيجاز، فإن تورّطه في موقفٍ خطأ، جرّاء اجتهادٍ يبادر إليه، فيوقِعه في التباسٍ غير محمود، يوجب الجهر بأنه زلَّ وأخطأ، ووقع في ما هو جدير بأن يلزم أن يكون فيه أكثر حذاقةً وعمقاً ونفاذاً.
... موجز الأمر أن الكاتب اللبناني المعروف، والمشهور بفلسطينيته الخاصة، لم يرَ غضاضةً في أن يتلقّى اتصالاً هاتفياً من صحافية في جريدة هآرتس الإسرائيلية، في مقامه في نيويورك، ثم يجيب فيه على أسئلةٍ، في مقابلة صحافية معه، نُشرت تالياً في الجريدة، لمناسبة ترجمة روايةٍ له إلى العبرية في دار نشر إسرائيلية.
تُرانا نكون خشبيين وكلاسيكيين، ولا نعرف محاورة العالم، لو كتبنا، هنا، أنه كان متوقعاً من الكاتب البارز أن يردّ على المكالمة باعتذارٍ مهذّب، لأنّ اختلالاً يحدث فيها، يبدو، أولاً، في أن المتصلة بلا إقامةٍ شرعيةٍ في فلسطين، وتكتسب جنسية دولةٍ أقامت كياناً غير أخلاقي. ولا نظنه، إلياس خوري، لن يكون حضارياً، إذا ما بادر إلى إيضاح بديهية مهمةٍ لصحافية "هآرتس"، وهي أن المؤسسة التي تنتسب إليها صهيونية، ومعادية لحقوق الشعب الفلسطيني، ومن دواليب الإعلام الإسرائيلي، التعددي طبعاً.
وغريبٌ أن يفوت صاحب "غاندي الصغير" أن هذا الإعلام، بجرائده وتلفزاته مثلاً، لا يمانع في استضافة أي مثقف عربي على صفحاته وشاشاته، ليقول ما يشاء عن إسرائيل ومعاداتها السلام، لأن الأهم من ذلك كله، هو الاستضافة ذاتها، لا ما يُقال ويُنشر في أثنائها. ولأن الأمر على هذه البديهية، لم يزعج إلياس خوري أيّاً من الإسرائيليين، في قوله لـ"هآرتس" عنهم، إنهم ليسوا معنيين بالسلام، وغير جاهزين لتعلّم درس أهمية الكرامة الإنسانية. بل نحدس أن سروراً غشيهم من قبول "مثقف عربي وطني حارب مع الفلسطينيين"، على ما وُصف خوري في تقديمه من الجريدة المذكورة لقرائها، بأن يتحدث في أحد منابرهم الإعلامية، فهذا يعني شعوراً لديه بأنه يسلك مسلكاً عادياً وطبيعياً، وهذا مبهجٌ للإسرائيليين.
تسأل الصحافية، مايا سيلع، بالهاتف بين القدس المحتلة ونيويورك، صاحب الاجتهادات الجسورة بشأن الصهيونية وجرائمها، عن موقفه من مقاطعة إسرائيل، بأنه مع هذه المقاطعة، لمؤسسات إسرائيل، لا لأفرادٍ منها وصحفٍ فيها، ويقول إن هذا جيدٌ للإسرائيليين، والذين يلزمهم أن يشعروا بالهزيمة، على ما أوضح في كلامه عن ابتعاد السلام، بسبب عدم جاهزية المجتمع الإسرائيلي للخروج من الأراضي المحتلة. ونظننا لا نقع في تزيُّدٍ، لو ذهبنا إلى أنَّ إلياس خوري، في هذا الكلام، لم يشحط الذئب من ذيله، وأَن يُقال إنه يلزمنا أن نخاطبَ المجتمع الإسرائيلي لمحاولة التأثير فيه، وللتقاطع مع مشتركاتٍ لدى اليهود المعادين للصهيونية، فذلك اجتهادٌ لا يقف على روافع صلبة، بل هو تصورٌ محض نظري، محفوف بحذرٍ كثير، بالنظر إلى أن المجتمع المذكور يسرع خطواته باتجاه اليمين والتطرف والتعصب، والالتفاف على الأحزاب المتشددة. ما يعني أن لا منفعة من مقابلة في "هآرتس"، وأن استثماراً لها في الوسط الإعلامي والثقافي الإسرائيلي هو ما يصير، واعتبارها دليلاً على جاهزية العرب، بمثقفيهم التقدميين هذه المرة، لمخاطبة الإسرائيليين، معترفين بهم، وإنْ أشهر هؤلاء المثقفين وعظياتٍ أخلاقية، وبإشراقاتٍ تعبيريةٍ أحياناً (من قبيل حاجة الإسرائيليين لهزيمة). لا بأس في ذلك، في عُرف الإسرائيليين، ومجتمعهم، وهم على استعداد لدعوة إلياس خوري بين ظهرانيهم، وإلى أيٍ من جامعاتهم، ليسمعوا منه هذا الكلام، وأَمضى منه لو أراد.
حشد كاتبنا، الذي نحترم، ونحب، ثلاثمئة شخصية فلسطينية ولبنانية في خمسمئة قصة وحكاية تلملمت في روايته الملحمية "باب الشمس". وإذ تحتوي بعض تلك المرويات على مقادير عالية من الرهافة والحساسية، فقد كان يلزم شيء منهما في التعامل مع مكالمةٍ صحافية من "هآرتس"، كتب بعض أصدقائنا أنها كانت عابرةً، لكن وقع ما أخطأ فيه إلياس خوري، وزلَّ فيه، وجانبه الصواب، لن يكون عابراً، وإنْ لا يليق أن نعطيه، وهو المثقف النابه، دروساً في الذي يلزم وما لا يلزم في شأنٍ يتعلّق بالجوهري والعميق والوجودي، في مسألة الصراع مع إسرائيل. نكتفي بأن نخبره، هنا، بأنه أخطأ، فقط لا غير.
        

دلالات

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.