فلسطين والربيع العربي وتونس

فلسطين والربيع العربي وتونس

06 ابريل 2014

طفلة تونسية ترفع العلم الفلسطيني في مسيرة (أ.ف.ب أرشيفية)

+ الخط -

مرت ذكرى يوم الأرض الفلسطيني، الأسبوع الماضي، في بلدان عربية عديدة، من دون أن تثير ما كانت تثيره من قبل. كان لها وهجها الاستثنائي، على الرغم مما تكرر من تقاليد الاحتفاء بها، بتنظيم فعاليات سياسية وثقافية، وكأن شيئاً ما حلَّ، فأصاب بعض ذلك. قد لا يشاطرني بعضهم الرأي، ولكن، تجمعت لدي دلائل رجحت هذا الإحساس.

في كل مرةٍ، نحيي فيها هذه الذكرى، نقف على نبل الانتماء إلى التراب، بصلصاله، وحمئه المسنون، فيمنح وجودنا معنى وامتلاء. ينسى الناس، في معاركهم الكبرى أحياناً، حتى العقائد والإيديولوجيات والأعراق، وغيرها من عناصر قد تجمعهم.  لكن، يتحصنون، في النهاية، بالتراب، فللتراب سطوة لا يمكن ردها.

أكثر من غيرها، تحوز ذكرى يوم الأرض على قدرةٍ فائقةٍ على تجميع الفلسطينيين والعرب. لكن، وهم يحتفلون بها، يعودون إلى خيماتهم الخاصة، كلٌّ على طريقته. يتلون التراب آنذاك، ويفوح عطره بلون الفصيل المحتفل، فضلاً عن إيديولوجيته، والبلاد التي تحتضنه. تتجول بين الفعاليات الفكرية والثقافية داخل البلد الواحد، فترى كيف تصبح الذكرى ماركسية عند هذا، وقومية أو إسلامية عند ذاك. يستحضر الفاعلون من الذكرى ما يشاءون، ويقرأونها كما تدلهم على الحروف كتبهم ونظاراتهم. كان إحياء هذه الذكرى يأخذ طابعاً احتجاجياً في تونس، فتصب الجماهير غضبها على النظم السياسية التي تعاقبت، بمثل ما تصبُّه على الكيان الصهيوني. يحيي الناس هذه الذكرى، تحت وقع ما يحيونه على تلك الأمتار من "ترابهم الوطني المحرر".

استطاعت القضية الفلسطينية أن تجمع الفرقاء باحتضان اختلافهم، وكان الناس يُبدون قدراً كبيراً من الصبر على بعضهم، مجاملةً وتنازلاً وإكراماً للقضية، غير أن ذلك لم يمنع من اندلاع صراعات حادة، بين حين وآخر، بين تلك الخيم التي تفسد للقضية وداً.
يبدو أن ذكرى يوم الأرض فقدت، في السنوات الأخيرة، حرارتها، فقد يكون الاحتفال بها، في ظل ما منحته الثورات العربية لشعوبها من قدراتٍ كبيرةٍ على التعبير والتظاهر الحر، أفقدها البريق والحرارة الماضيين. وقد يكون فك الارتباط النفسي بين القضية الفلسطينية والاضطهاد المحلي، في تلك البلدان، سحب من الذكرى بعض دلالتها، وأتلف من معانيها قسطاً لا يستهان به.

ربما تعودنا على أشكال الاحتجاج التي فيها نهرول، ونلعن الأنظمة الحاكمة، على وقع قنابل مسيلة للدموع وحجارة متساقطة وأشياء مهشمة ومحترقة، حتى إذا فسح لنا المجال للتعبير عن الاحتجاج السلمي، فقد الاحتجاج غوايته، ولذته العارمة.  وهل من متعة أن تخرج للشارع وتحيي الذكرى، والأمن الوطني يرافقك، فيفسح لك المجال، وينظم أمامك حركة المرور، تاركاً لك الحرية الكاملة في أن تفعل ما تشاء. وقد يتعاطف معك بالبكاء، أو الدعاء، صدقاً أو مزايدة؟

لا أعتقد أن هذه العوامل وحدها، إِن صحّت أَصلا، تسحب من الذكرى وهجها، فقد تكون حالة الانقسام الفلسطيني، حتى لا نستعمل مفرداتٍ أخرى أكثر واقعية ساهمت في ذلك. ولكن اعتقادي أن العامليْن الحاسمين يعودان، أولاً، إلى انشغال أنظمة وشعوب ما بعد الثورات العربية في قضاياهما المحلية، والمعقدة، في ظل عجز متنام عن إدارة المرحلة الانتقالية، ما جعلهما منهمكين في شأنهما الخاص. ويعود العامل الثاني إلى التحرش المتنامي بحركة حماس، والفيتو المرفوع عليها، من قوى دولية وإقليمية، وأخذ أبعاداً تراجيدية، بعد إزاحة الرئيس محمد مرسي من الحكم في مصر.

فما أَن تصدرت حركات إسلامية الحكم في بعض دول الربيع العربي، حتى عمد بعضهم إلى استعداء القضية الفلسطينية، بالتحرش بأحد الفصائل الفلسطينية بعينه. ويبدو أن ما يحدث في سوريا، خصوصاً، على صلة بذلك الاستعداء، فلربما يريد بعضهم بالمقاومة الفلسطينية، وبعض فصائلها، خصوصاً، أن تحذو حذو حزب الله، وتختار معسكرها، حتى تثبت عروبتها وقوميتها. وربما أراد آخرون أن يتخذ هذا الفصيل موقفاً مناهضاً من الثورات أصلاً. وربما كان للمتن الفكري والسياسي الواحد بين "حماس" وبعض الحركات السياسية سبب فيما يحصل، بقطع النظر عن المستجدات الإقليمية.

يشعر بعضهم في تونس، وفي أكثر من بلد عربي، أن "حماس" تُعاقب على ما ترتكبه شقيقاتها من الحركات الإسلامية في دول الربيع العربي، من أخطاء. أو ربما، وهذا الأرجح، أن "حماس" ستستهدف، حتى ولو لم ترتكب تلك الحركات الأخطاء. وما يخيف، حقاً، أن الأمر لم يقتصر، هذه المرة، على الأنظمة الحاكمة، ذلك أن بعضاً من الإحساس الشعبي بدأ ينمو في مثل هذا الاتجاه. أتذكر أَن شيئاً من هذا القبيل شاع في بداية الثمانينيات، حينما حلَّ بيننا الأشقاء الفلسطينيون في تغريبة ما بعد الحصار، تاركين بيروت التي منها يصل عبق الأرض غير مبلل، أو مملح بالبحر.

تحرش بعضهم بالفلسطينيين، وحمّلوهم غلاء الأسعار، وانكماش الاستثمار الأجنبي، خوفاً من عملياتٍ انتقامية، وقد تكون صور الثراء الفاحش لبعض القيادات وفسادهم سبباً فيما حصل آنذاك. لكن، سرعان ما تغير المزاج الشعبي، وقد ارتكب الكيان الإسرائيلي حماقاته، حينما استهدف القيادات الفلسطينية، فسال الدم التونسي والدم الفلسطيني، على أرض تونس هذه المرة. رقَّ المزاج الذي كان متبرماً بوجودهم، لتحل حالةٌ روحية وطنية، متعاطفة مع القضية، ولم تشذ عنها إلا أوساط مالية وفكرية فرنكفونية. وعرفت القضية الفلسطينية، في تلك العشرية، أكبر مد شعبي من التعاطف في المغرب العربي.

الآن، تشتغل ماكينة التحرش بحركة حماس، وبالقضية الفلسطينية عامة، في أكثر من موقع إعلامي، بنى بعضها "مجده المالي" من المتاجرة بها، وراكمت له صواريخ القسام المرفوعة على أكتاف الملثمين حساباتٍ وحسابات، في حالةٍ من إحباط جماعي، وبحثٍ عن انتصاراتٍ، ولو صغيرة، وحتى أحيانا وهمية. ومؤلمٌ ومحيرٌ أن فصائل، محسوبة على التيار العروبي والقومي، منخرطةٌ في حملات الاستعداء تلك.

يجتهد عديدون في البحث، حالياً عن دلائل وقرائن كثيرة لتورط "حماس"، ومن ورائها الفلسطينيين، بشكل عام، في الذي يحدث في بلدان الربيع العربي من عنفٍ وإرهاب. وينخرط الجميع في معارك النفي والإثبات، في زمن لم تعد الحدود فيه واضحةً بين المثقف والإعلامي و"المخبر الوطني" أو "المأجور". وللأسف، تقدم التجربة المصرية "نجاحاً باهراً" في إيصال الأمور إلى إيجاد حالة عداءٍ تجاه الفلسطينيين، بشكلٍ عجز عنه حتى نظام حسني مبارك.

لنا أكثر من سببٍ، لأن نخشى أن يصبح التعاطف مع القضية الفلسطينية، أو حتى مجرد إحياء أيٍّ من ذكراها، تخابراً مع عدو يهدد الأمن القومي. قد نحاكم، لأننا علقنا في حاملة مفاتيحنا، الآيلة إلى الصدأ، خريطة فلسطين فقط؟ يهون علينا الأمر ما رأيناه في قلب العاصمة التونسية، وفي الشارع نفسه الذي شهد اللحظات الأخيرة من سقوط نظام زين العابدين بن علي: أطفال صغار يتوشحون بما فاحت به أرض الخضراء من أعشاب برية، وأزهار جبلية، وهم يرقصون على وقع الدبكة الفلسطينية، إحياء ليوم الأرض. 

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.