المصريّون والعصيان المدني

المصريّون والعصيان المدني

26 ابريل 2014

طلاب في جامعة القاهرة يتظاهرون 24 إبريل 2014 (Getty)

+ الخط -

الحاجة أمّ الاختراع، قول أطلقه الناس، وصدّقه الواقع، فكلما ضاقت السبل بالناس من الحاكم الظالم، بحثوا عن وسائل تكفّه عن ظلمه، أَو تعزله من منصبه. هكذا ديدن الناس في كل زمان ومكان، عندما تحدث من داخلهم مقاومةٌ تدلّ على عدم الذلّة والمهانة، مهما كلفهم ذلك. وفي مصر الآن، ظلمات فوق بعض، لا ظلم واحد، ما دعا الشباب والناس على الأرض إلى طرح فكرة الإضرابات والعصيان المدني وسيلة وسبيلاً لكسر هذا الظلم والانقلاب العسكري في مصر، وهي وسيلة أثارت نقاشاً بين الجميع، وبخاصة المتدينين منهم.
بدايةً، نودّ توضيح أمر مهم هنا في موقف الإسلام من هذه الوسائل، فالإسلام لا يضع المسلمين في قوالب جامدة، بل يعلّم المسلم أن يفرّق بين الهدف والوسيلة. فعلى المسلم أن يراعي التفريق بين الأهداف الثابتة والوسائل المتغيّرة، ولم يترك النبي، صلّى الله عليه وسلّم، وسيلةً تفيد الإنسان إلا أباحها، وطلب إلى المسلمين الاستفادة منها. فرأيناه يستفيد من علم أهل فارس في حفر الخندق، وهي فكرة فارسية، وليست عربية أو مسلمة، دلالة على أن الإسلام يرحّب بكل وسيلة نافعة. ومع ذلك، وردت نصوص تدلّ على مشروعية العصيان المدني، منها قول النبي، صلّى الله عليه وسلم: "ليأتيَنَّ عليكم أمراءٌ يقرّبون شِرار الناس، ويؤخّرون الصلاة عن مواقيتها، فمَن أدرك ذلك منكم، فلا يكونَنَّ عريفاً ولا شرطياً ولا جابياً ولا خازناً". ومنها ما رُوي عنه، صلّى الله عليه وسلّم، قوله: "يكون في آخر الزمان: أمراءٌ ظَلَمة، ووزراءٌ فَسَقة، وقضاةٌ خَوَنة، وفقهاءٌ كَذَبة، فمَن أدركهم منكم، فلا يكوننَّ لهم عريفاً، ولا جابياً، ولا خازناً، ولا شرطياً".
هنا، يأمرنا، صلّى الله عليه وسلّم، بعدم العمل أو التعاون مع الحكام الظَلَمة، بل إنه يأمر باعتزالهم صراحةً، فيقول في حديث آخر: "يُهلكُ أمتي هذا الحيُّ من قريش"، قالوا: فما تأمرنا؟ قال، صلّى الله عليه وسلّم: "لو أن الناس اعتزلوهم". فهو يتكلم هنا عن حاكمٍ يهلك الناس بالقتل والقهر، وتمنّى النبي، صلى الله عليه وسلّم، أن يعتزلهم الناس، بمعنى ألا يتجاوبوا معهم بما ينقض شرعيتهم، ويقوّض سلطتهم، وهي دعوة صريحة للعصيان المدني للحاكم الظالم.


وقد مارس المصريون في تاريخهم العصيان المدني بشكلٍ يتناسب مع زمانهم، ما سمّاه المؤرخون: الامتناع عن التعاون مع الحاكم، فمنها ما كان بعدم استقبال الوالي الذي يقدم إليهم، أو استقباله استقبالاً فاتراً، معبّرين بذلك عن السخط وعدم التعاون، والرغبة في عزله، وكثيراً ما كان ينتهي فعلاً بعزله. ومن ذلك أن الخليفة الأموي، هشام بن عبد الملك، أراد أن يوحّد المكاييل في خلافته، فبعث (مُدْيا) إلى مصر، والمدّ هو ما تُكال به الحبوب الزراعية، وأمر أن يتعامل المصريون به، فأمر الوالي، فطِيف به على القبائل، حتى أتى به إلى (المعافر)، فعرض عليهم، فبرز منهم عبد الرحمن بن حيويل، وأخذه ثم ضرب به حجراً فكسره، وقال: "إن لنا ويبة وأردبا قد عرفناها ولسنا نحتاج إلى هذا". فلُقّب من ذلك الحين "كاسر المُدى"، وصار هذا نسباً لبنيه، يقال لهم: "بنو كاسر المُدى".
وكان المصريون يمارسون العصيان المدني بأشكال أخرى، منها: عدم تسليم المطلوبين من الحاكم الظالم، بل يساعدوهم على الاختباء والهرب، وكتاب "المكافأة"، لأحمد بن يوسف، مليء بنماذج لا حصر لها، رفض فيها المصريون التعاون مع الحاكم الظالم في تسليم الناس له. وقد ذكر نماذج مهمة الدكتور حسين نصار في كتابه "الثورات الشعبية في مصر الإسلامية" في باب "الامتناع عن التعاون"، نقلنا بعضاً منه، وممّا نقله من المجالات، بعد ما ذكرناه من عدم التعاون، يقول: وأبدى المصريون لونين آخرين من الامتناع عن المعاونة، أخطر من جميع الألوان السابقة، وهما امتناع أهل القرى والمدن عن أداء الخراج، وامتناع الجند عن إجابة طلب الوالي وقت الشدّة. أي امتنع المصريون عن دفع الضرائب للحاكم، وامتنع الجند عن إجابة طلب الحاكم الظالم، لأنهم، بذلك، عون له على ظلم إخوانهم من الشعب.
والعجيب أن أحد مشايخ الانقلاب العسكري في مصر، وهو الدكتور سعد الدين هلالي، في كتاب له كتبه قبل الانقلاب، يقول فيه عن الإضراب عن العمل: "فإنني أرى اختيار ما ذهب إليه الأكثرون، وبه أخذ القانون المصري، القائلون بمشروعية اتخاذ الإضرابات العمالية سبيلاً للمطالبة بتحسين الأوضاع، شريطة استنفاد الطرق المشروعة للتظلُّم، والإعلان المسبق بوقت كافٍ عن هذا الإضراب، لإعذار أرباب الأعمال، وتحوّطهم من الضرر المحتمل، وذلك لقوة أدلّتهم، ولصيرورة هذا الإضراب بضوابطه القانونية حقاً إنسانياً عاماً في هذا العصر"، من كتاب "الجديد في الفقه السياسي المعاصر ص: 65".
فالعصيان المدني وسيلة لا تعارض الشرع، ولا العقل، ولا القانونين، الدولي والمصري.