حرب طائفيّة استئصاليّة في العراق وسوريا بقناعٍ شفاف

حرب طائفيّة استئصاليّة في العراق وسوريا بقناعٍ شفاف

31 مارس 2014

مظاهرة للتيار الصدري في العراق ضد المالكي

+ الخط -

 

خلال العامين الماضيين 2012 و2013، ركّز رئيس وزراء العراق، نوري المالكي، جهودَه للإجهاز المعنوي والمادي على رموز السنّة السياسية في بلاد الرافدين. بدأَ الأمر بطارق الهاشمي، نائب رئيس الجمهورية ورئيس الحزب الاسلامي العراقي، وتلاه بوزير المالية، رافع العيساوي، وها هو المالكي يحاول استكمال الحملة برئيس مجلس النواب، أسامة النجيفي. لا يقتصر الأمر على هذه الزعامات، بل يتعدّاها إلى العشائر التي ثارت في الرمادي والأنبار والفلوجة، وجرى اتهامها بالإرهاب. وهذه هي التهمة المفضّلة التي يسوقها المالكي لسائر الزعامات السياسية السنية، في محاولةٍ منه لإقصاء المكوّن السني أولاً، ثم استتباعه له ثانياً. 

ليس الصراع الطائفي جديداً في العراق، ما بعد سقوط نظام صدام حسين، ولعبت مختلف الأطراف أَدواراً مشهودة في الاقتتال والتنكيل والتهجير، بما فيها أطراف سنية وشيعية. وحضور القاعدة، دولة العراق الإسلامية، لا تخطئه العين، وقد ارتكب هذا التنظيم ما لا يُحصى من ارتكابات ضد الجيش والشرطة والمدنيين، غير أن الأطراف الأخرى لم تكن طاهرة الذيل، وبلا ذنوب. مقتدى الصدر نفسُه اشتكى من أعمال دموية، وعمليات خطف واسعة النطاق، ارتكبتها عناصر من تياره. الميليشيات المسلحة تتوزع على الطائفتين الإسلاميتين. محاولة قصر الإرهاب على طرف أهلي واحد هو من قبيل الاصطفاف الطائفي، ويُجافي منطق إرساء الدولة على عمومية القانون، تجاه مواطنيها. ويعرف العراقيون أنه، إلى جانب الجيش والشرطة، ثمّة ميليشيات تحظى برعاية رسمية. من جهة ثانية، فإن تصوير المالكي الانتفاضة السورية على أنها حرب على تكفيريين يندرج في هذا السياق، سياق شيطنة مكوّن طائفي بعينه دون سواه. ومحاولة دمج ما هو عراقي بما هو سوري، على الرغم من اختلاف الأوضاع في البلدين، ذلك أَن ما يريده السيد المالكي، ومَن يدورون في فلكه، هو تغليب طائفي في البلدين، الضحية فيهما هي الوحدة الوطنية، ونموذج الدولة العصرية والمكوّن السني.

بهذا، يرتسم جانبٌ من حرب طائفية، ذات منزع استئصالي، لا سابق لها في المنطقة. إنها صراع أهلي مُقنّن، مرعيٌّ رسمياً، وهنا مكمن خطورته. في وقت من الأوقات، بدا المالكي، وكأنه يحمل مشروعاً لإعادة بناء الدولة الوطنية، ولحل الميلشيات، وللتفاهم مع الحركة الكردية، بما يحفظ حقوق الحكومة المركزية وحقوق الأكراد في الوقت نفسه. لكنه، وعلى الإيقاع المتسارع للانتفاضة السورية، أَخذ يتماهى مع رؤية طهران والنظام في دمشق، القائمة على فرز طائفي، إِذ سرعان ما انتقلت الحرب على جبهة النصرة و"داعش"، إلى حربٍ على طائفة هذين التنظيمين. وليس هذا التشخيص من قبيل المبالغة.. ليته كان كذلك! فقد انتقلت الحملة في سوريا على المدنيين، ابتداءً من الأطفال والنساء، إِلى هدمٍ واسع النطاق، وشامل، للبيوت، خصوصاً في حمص وحماه ودير الزور، لتتّسع الحملة، فتصبح المدن ـ الحواضر، بكل ما فيها من عمران ومنشآت ومرافق، هدفاً علنياً سافراً. هذه حال حمص وحماه وحلب، وهي حواضر السنّة في سوريا، علاوة على أنها، في الأصل، حواضر شامخة، صمدت أمام الغزاة قروناً. لم يحدث في التاريخ العربي القريب أن تعرّضت مدنٌ بأكملها لحرب تدمير شامل، كما يحدث للمدن التاريخية، حمص وحماه وحلب، وهي مدن عربية وإسلامية عريقة.

إلى جانب ذلك، فإن حملة الاقتلاع وتهجير السوريين، إذ استهدفت السوريين المعارضين من مؤيدي الانتفاضة، فقد انتقلت إلى أبناء المناطق التي ينتمي إليها هؤلاء. في الحصيلة، فإن الغالبية العظمى من النازحين واللاجئين والمقتلعين هم من أهل السنّة في سوريا. نزح هؤلاء إلى الأردن وتركيا ولبنان، دول الجوار. في لبنان خصوصاً، يتعرّض هؤلاء لتنكيل من أطراف أهلية، بمطاردتهم ورفض منحهم مخيمات لجوء، وبإنكار واقع كونهم ضحايا. حزب الله في لبنان يقود الحملة عليهم تحت شعار: عدم تسييس وضع هؤلاء، علماً أن مأساتهم ناجمة عن وضع سياسي شاذ، وليس عن كارثة طبيعية أَحاقت بهم. والمهم أن تفادي التسييس المزعوم يستخدم غطاءً لرفض إبداءِ أي تعاطف إنساني مع مئات الألوف من المشردين السوريين في لبنان. وتبدو الدولة اللبنانية أكثر رحمةً وإنصافاً من أطرافٍ، مثل حزب الله وحركة أمل وتيار ميشال عون الوطني. ولا يوجد لهذا الوضع، غير العقلاني، تفسيراً، إِلا في نوازع غير عقلانية، تحكم أصحابه نوازع طائفية تُشيطن الضحايا، وتنكر عليهم كينونتهم الإنسانية.

إِلى هدم المدن على رؤوس أصحابها، واقتلاع الكثافة السكانية السنية، حدث ما هو أكثر جلاءً في المنزع الطائفي. إنه استهداف دور العبادة، المساجد السنية. لم يعد هناك مسجد لم يتعرض للهدم، أَو وقع عليه ضرر جسيم في سوريا. وتشير معظم التقديرات إلى ما لا يقل عن ألف مسجد جرى استهدافها. لكن، هناك ما هو أكثر أهمية من الإحصائيات، هو واقع الحال البادي للعيان في سائر المدن والبلدات السورية. لا يمكن تفسير استهداف المساجد بأسبابٍ سياسية فقط (علماً أن ذلك متعذّر، فليس هناك في دمشق نظام اشتراكية علمية على النمط الستاليني، مضاد لحق العبادة وحريتها). هناك سبب لذلك، يتعلق بالمنزع الطائفي، واستئناف منازلات طائفية، غائرة في عمق التاريخ الإسلامي.

تساءل كثيرون عن السر الذي يجعل نظاماً يجرّد حرباً بهذه الشمولية على شعبه. وكيف يمكن لنظام أَنْ يحكم شعبه مجدداً، بعد كل الذي ارتكبه هذا النظام بحق شعبه؟ الجواب على ذلك، والذي تنطق به آلاف الشواهد، والوقائع الحسية، أَن نظرة هذا النظام لشعبه تقوم على فرز طائفي، يجعل الاهتمام منصبّاً على العاصمة السياسية والإدارية، وعلى مدن الساحل السوري. لهذا، لا يعبأ النظام مطلقاً بمَن هجّرهم من السوريين السنّة، ويتعامل معهم باعتبارهم زائدين عن الحاجة.

يلقى هذا النهج دعماً موصولاً من السيد نوري المالكي، ومن المسؤولين الإيرانيين، ومن حزب الله الذي يعتبر خوض هذه الحرب "واجباً مقدساً"، و"حرب وجود". وهي صفات لم تطلق أبداً من قبل على الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، ما يفسّر أن قيادة حزب الله تكاد لا ترى في سوريا شعباً سورياً، ولا يعنيها موقف هذا الشعب إزاء اصطفاف حزب الله إلى جانب النظام. بعد سقوط يبرود، في 16 آذار، تدفق آلاف السنّة السوريين إلى منطقة عرسال اللبنانية القريبة، وتم استهداف هؤلاء، ومعهم أَبناء المنطقة من اللبنانيين السنّة، بعشرات الغارات الجوية من الطيران السوري، وذلك كله لا يقلق حزب الله من قريب ولا من بعيد. فالحزب ماضٍ على طريق "الجهاد المقدس"، والذي يجعل سوريا خاليةً من غالبية شعبها. بذلك، تنتصر "المقاومة". ويمكن بسهولة استبدال كلمة المقاومة بالنظام الإيراني، من أجل أن تطابق التسميات مسمّياتها.

تعكس هذه المقاربة تشخيصاً لواقع الحال، وتحاول تفسير الحلف القائم بين طهران ودمشق وبغداد وحزب الله، وفحوى هذه الحرب ووجهتها، انطلاقاً من الوقائع والشواهد الثابتة والمتكررة. وحتى روسيا بوتين (الأرثوذكسية القومية)، الشريكة في هذا الحلف، فهي ليست بعيدةً عن هذا المنطق، بل في قلبه. فالهاجس الإسلامي السنّي في الشيشان، ورواسب الحرب على الوجود السوفياتي ـ الروسي في أفغانستان، هو ما يدفع موسكو إلى التحالف مع الشيعية السياسية ضد السنية السياسية في المنطقة.

غنيٌ عن القول إن هذا المقال يُزكّي مبدأ المواطَنة والحق في التعبير عن التعددية السياسية والثقافية، ويناصر مبدأ عمومية القوانين ومدنيتها، ولا يزكّي طائفةً على أخرى. جُلّ المراد هو التعبير عن الوقوف مع الضحايا والمستهدفين أيّاً كانوا، والوقوف ضد الظلم، أَيّاً كان مصدره ولبوسه، وتكشف التطورات، في السنوات الثلاث الماضية، أن استهدافاً مادياً وسياسياً يتّجه نحو المكوّن السني (بادّعاء أن هذا المكوِّن جلب مظالم للطائفة الأخرى)، على أيدي أنظمةٍ وأطرافٍ لا تكتم هويتها الطائفية، وإن استخدمت من "محاربة التكفيريين" قناعاً شفافاً لها، وهو استهداف ذو هدف سياسي (القائمون عليه رجال سياسة وحرب، لا رجال دين)، ويتمثّل في توسيع النفوذ الإيراني وتعميقه، وتمكين أَصحابه من التغلغل في المنطقة، وإِعادة رسم معادلات القوة فيها، وتوطيد مراكز حلفاء طهران، باستثمار التحشيد والتعبئة الطائفيين، واستغلال وقائع قديمة في التاريخ الإسلامي، وإعادة إنتاجها، مع الإفادة القصوى من ثروة النفط الإيراني والعراقي، لتأليف القلوب، وتجهيز الجيوش والميليشيات وأَجهزة الدعاية.