وأَما بنعمة ربّك فحدِّث

وأَما بنعمة ربّك فحدِّث

06 ديسمبر 2014

سوري يتفقّد أنقاض بيته في حلب (23نوفمبر/2013/أ.ف.ب)

+ الخط -

قرأنا في الصحف أن مئة مجموعة سورية ألَّفوا في ما بينهم جبهة مشتركة، وانتخبوا لها قيادة. مئة مجموعة وجماعة وفصيل؟ نعم، بلا مبالغة. هذا يعني، واقعياً، أن السوريين لن يتمكنوا من التوصل إلى مخرج من حربهم الدموية الطاحنة، وهم يحتاجون، والحال هذه، إلى وصاية دولية مع الأسف؛ فمفتاح الحل بات في أيدي الخارج، لا في أيدي هذه الجماعات التي لا تنفك تنقسم على نفسها، في كل يوم، كالأميبيا.

في ذروة التعدد الفلسطيني، لم يصل عدد المنظمات الفلسطينية إلى أكثر من ثمانية (فتح، الجبهة الشعبية، الجبهة الديمقراطية، الصاعقة، الجبهة الشعبية ـ القيادة العامة، جبهة التحرير العربية، جبهة النضال الشعبي الفلسطيني، قوات التحرير الشعبية). وفي أسوأ فترات الانقسام بعد حرب 1982، ظهرت في دمشق جبهة الإنقاذ الفلسطينية (إقرأ: جبهة الأنقاض) التي ضمت عشرة فصائل، بينها المنشقون عن فتح ومجموعة أبو نضال (صبري البنا) التي لم يُروَ عنها إلا قتل الفلسطينيين، ولم يبقَ في الميدان إلا "حديدان"، أي حماس والجهاد الإسلامي، ومع ذلك، لم يصل التشرذم إلى هذا الحد من التهتّك السوري.

ماذا تعمل مئة فصيلة مسلحة في سورية؟ هل تحارب في سبيل سورية حقاً، أم إنها تخوض حروباً بلا أفق؟ ومن دون أي احتيال لغوي أقول إنها، في معظمها، هي التي قضت على "الثورة السورية"، وها هي تقضي، الآن، على السوريين. إنها تقتل وتنهب وتعتدي على الناس وأموالها، وصارت جيوب قادتها، جراء ذلك، مملوءة بالأموال، وحساباتهم في المصارف التركية واللبنانية والأردنية ضخمة ومشهورة ومسموعة، والاستخبارات من كل صنف تسرح وتمرح وتجنّد الشبان "الضايعين الصايعين"، والمناشر تجز الرؤوس، وقنابل جهنم تُطلق من الأرض، والبراميل المتفجرة تهوي من السماء، وجثت اللاجئين الهاربين التهمتها أسماك البحر المتوسط، أو طمرتها العصابات في الغابات الأوروبية.

في سورية ولبنان نحو مليون ومئة ألف فلسطيني. هذه هي الكتلة البشرية التي جعلت من حق العودة قضية يمكن النضال في سبيلها. ومن دون هؤلاء، يصبح "حق العودة" مجرد عبارة باردة في أدبيات قديمة. فالفلسطينيون في سورية (ولبنان استطراداً) هم الذين قدموا الطلائع الأولى للثورة الفلسطينية المعاصرة. وفي سورية، نشأت المعسكرات الأولى لحركة فتح وغيرها من المنظمات، ومنها انطلقت قوافل الفدائيين الأوائل نحو فلسطين عبر الأردن، ونحو جنوب لبنان. وسورية كانت البلد العربي الوحيد الذي لا يقول للفلسطيني إنه غريب. إنها سورية المجتمع وسورية الدولة وسورية الناس، قبل "البعث" وبعده. لكن الأمور كلها تتغيّر، الآن، في طاحونة الموت، والسوريون أنفسهم صاروا لاجئين في أرضهم، وفي ديار الله الواسعة، وأعدادهم باتت أكبر من أعداد اللاجئين الفلسطينيين.

في سورية، اليوم، عجب عجاب في الأسماء والكنى والألقاب؛ مئة منظمة وثلاثمئة ناطق باسمها، وستمئة قائد لها. وأغلب الظن أن السوريين باتوا يريدون قائداً واحداً لا غير هو "الحاج خلاص". نعم، "الحاج خلاص" وكفى. المهم أن يتوقف الموت بأي ثمن، وأن يهدأ وجيف القلوب، واصطكاك الركب، فلا شيء بات ملحاً، الآن، إلا وقف القتال، مهما تكن النتائج، لأن الحرب الأهلية تُطلق من قاع المجتمع أسوأ ما فيه، وتنثر على الناس أحطّ الغرائز وأكثرها انحطاطاً. أما يكفي الذل اليومي والإذلال العنصري، حتى في بلد "مضروب" كان جزءاً من سورية، ويعتاش على أموال السوريين، وعرق عمالهم، مثل لبنان، بينما القادة الجدد، ومعهم الرائحون الغادون ينثرون النعمة التي هبطت من "العلياء" بلا وجل أو خجل، فيما الدماء تتناثر في كل مكان؟ إنها نعمة هطلت من غامض علم الله والاستخبارات. فلا ضير إذاً من استعراض الثروة الجديدة بفجورٍ، يشبه فجور الفئات القديمة... وأما بنعمة ربك فحدِّث.