تونس.. مقعد رئاسي لعالمين؟

تونس.. مقعد رئاسي لعالمين؟

02 ديسمبر 2014

تفادت تونس أزمات كثيرة عاشتها دول الربيع (Getty)

+ الخط -

ليست هناك طريقة لإعطاء الثورة شكل الدولة، أحسن من وضعها في صناديق الاقتراع، وليس هناك، أيضاً، من طريقة أفضل لقتل الثورة أفضل من وضعها في صناديق اقتراع، تعيدها إلى وجود سابق على وجودها، وإلى زمن ما قبلها..!

ذلك ما توحي به اللحظة الفارقة التي تعيشها تونس، منذ نهاية الدور الأول من الرئاسيات، إلى حين الحسم في الدور الثاني بين مرشحين اثنين، هما الباجي قايد السبسي والمنصف المرزوقي.

سيقول المتفائل مثلي معترضا: من المحقق أن تونس التي بادرت بالثورة، انطلاقاً من قصيدة الشابي، إذا الشعب يوما أراد الحياة، إلى شارع بورقيبة الطويل، لن تخضع لشياطينها بسهولة. وعليه، فإن الدرس الذي ستخرج به من صناديق الرئاسيات الحرجة هو أنها قادرة على أن تصنع استثناء عربياً.. ولن تستطيع أن تكون كذلك، إلا إذا لم تعد استثناء في العالم الديموقراطي، وفي منظومة الدول الحديثة!

ولديه ما يكفي لكي يعلل نزوع التفاؤل: لقد تفادت تونس أزمات كثيرة، عاشتها دول الربيع، ونجحت في دستورٍ هو الأكثر تقدماً في البلدان العربية والاسلامية، وطبّعت التنافس بين المكونات اليسارية والعلمانية والليبرالية والإسلامية.. وإمعاناً في التوقعات الوردية لتونس القادمة، تقبل الإرادة أن نقبل بامتحان سياسي مقبل، يجعل من مفارقات تونس الثورة وتونس الديموقراطية، أن الرئاسيات التي يتقدم فيها باجي قائد السبسي، هي "آخر الخطوات نحو الانتقال للديموقراطية الكاملة".. ستكون كذلك حتى ولو أفضت إلى عودة شيخ من زمن العهود السابقة للثورة... إلى صباه البورقيبي!

ومع ذلك، تقدم هذه اللحظة التونسية لنا فيلما لم يسبق أن رأيناه على شاشة التاريخ العربي: فلأول مرة نتابع قصة عالمين متناقضين، يتصارعان أمامنا، وأمام الرأي العام العالمي على من .. يكون منهما عنواناً للمستقبل:

مباشرة على الهواء المطلق، تدور أطوار تفاوض بين الثورة والدولة على مستقبل الديموقراطية. ويجسد هذا التفاوض عالمين:

عالم يتكئ على طمأنينة الشيخ الليبرالي الذي عبر زمن بورقيبة إلى زمن الياسمين، وهي طمأنينة مشوبة بغير قليل من السلطوية المتخفية في الحنين إلى رجل من النظام السابق، النظام المعروف...المحدد زمنياً ومؤسسياً وطبقياً.

وعالم محفوف بالأناشيد الثورية والتعددية الحقيقية، حيث تتراجع التفسيرات المتكئة على «أحقية»! شعوب المتوسط من بين كل الشعوب، باستمرار المستبد المستنير حيناً، والغارق في أحلام الجنون الدامسة، أحيانا كثيرة.

هنا يسهل خروج الدولة القديمة من الثورة الجديدة، ويسهل خروج الميت من الحي، بدون أن يكون للحي القدرة على الخروج من الحي!

في تشكيل تاريخي، نحن نعيش لحظة غير مسبوقة، في تحليل الانتقالات من القديم إلى الجديد: لقد سلمنا لزمن طويل بما كان يقوله المفكر والمناضل الإيطالي المناهض للفاشية، أنطونيو غرامشي، من أن الصراع بين عالم ينازع ويحتضر وعالم جديد، لم يعد محركاً أساسياً للتاريخ، وعنصر تفسير قوي للأزمات في المجتمعات. واليوم، نعيش مفارقة تونسية مذهلة، بما يمكن أن ننعته اشتقاقياً بكونه لحظة غرامشية مقلوبة: من جهةٍ، هناك عالم قديم لم يمت تماما يهدد بالعودة، وهناك، من جهة ثانية، عالم جديد يهدد بالاحتضار..!

والأزمة بدورها تختلف، فالقديم ينبعث بقوة، والجديد لا يزال في حكم الغائب المحتمل، لم يولد أو يجد صعوبة في الولادة!

والحال أنه، في هذا الفارق الهائل بين الليل والنهار، في غبش الالتباس، تظهر الوحوش عادة!

حتماً سننتظر الدور الثاني في الرئاسيات بهواجس، تتجاوز هواجس اقتراع رئاسي في بلاد هدم فيها بورقيبة الحكم الوراثي منذ زمن، بل بهواجس أبعد، مضمارُها التاريخ المشترك في الشرق الأوسط، وكذا الامتحان الجديد للثورة الذي يلخصه التساؤل التالي: هل سيكون من قدرها أن تعود دوماً إلى بيت الطاعة السلطوي، أو قدر الديموقراطية هو أن تحتفظ دوماً بطابع الثورة السحري لحماية نفسها؟

768EA96E-E08E-4A79-B950-D8980EE5911C
عبد الحميد اجماهيري

كاتب وشاعر وصحفي مغربي، مدير تحرير صحيفة الاتحاد المغربية، مواليد 1963، عمل في صحيفتين بالفرنسية، من كتبه "أوفقير .. العائلة والدم.. عن انقلاب 1972"، ترجم كتابا عن معتقل تازمامارت. مسوول في فدرالية الناشرين المغاربة.