في نقد جاذبية "النموذج التركي"

في نقد جاذبية "النموذج التركي"

10 ديسمبر 2014

أردوغان في مؤتمر صحافي في ألمانيا (4 فبراير/2013/Getty)

+ الخط -

طرح انبهار "الأنا" النخبوية بـ "الآخر" الغربي، المتفوق حضارياً، السؤال المركزي لعصر النهضة: ( كيف ينهض العرب/المسلمون؟).  وبعد صدمة الحداثة وخضوع الشرق المسلم للهيمنة الكولونيالية الغربية، وانهيار مشروع محمد علي، بدأ المسلمون يتلمسون عمق أزمتهم الحضارية.

بذل محمد عبده جهده للبرهنة على أن في مقدور الإسلام أن يكون حداثياً وعقلانياً. وكانت هزيمة أحمد عرابي سبباً لاقتناع الإمام بأن مصر ليست بحاجة إلى ثورة، بل إلى إصلاح، فلم يتردد في وصف الزعيم الوطني، مصطفى كامل، بالديماغوجي الفارغ. وضع عبده خطة لمراجعة الشريعة الإسلامية، لكي تلبي شروط الحداثة، لكن التديّن التقليدي، ممثلاً بالأزهر الذي تمترس وراء رفض العلوم العلمانية الحديثة، التي تقلل من نفوذ الله في السياسة والقانون والاقتصاد والتربية، وألحّ على أولوية العلم الإسلامي (العلوم الشرعية)، كان عائقا حقيقيا أمام الإصلاح.

حتى تلك اللحظة، لم يكن لدى المسلمين أية حركة أصولية، بل كانوا في مرحلة إعادة تشكيل تراثهم الديني، ليواجه التحدي الجديد المتمثل في الحداثة، وجعل الإسلام قادراً على استيعاب روح العصر. لكن، ومنذ حسن البنا، ستحاول "الأنا" الإسلاموية التوفيق بين الإسلام والحداثة، عبر التأصيل للأخيرة، انطلاقاً من السياسي، لتنتهي إلى أسلمة الحداثة، من دون تحديث الشريعة، إذ بدا التناقض على أشده بين "الحاكمية" القائمة، في جوهرها، على الاعتقاد بسلطة الله المطلقة، وشمولية الشريعة، وبين جوهر الحداثة، من حيث هي انقلاب أيديولوجي فكري، أعلنت الإنسان مسؤولاً عن مصيره وصانعاً لتاريخه.

كان البون شاسعاً بين المشاركة في تطوير الحداثة والاكتفاء بتلوينها، واستمرت "الأنا" الإسلاموية خارج حركة التاريخ، عاجزة عن التأثير في مجرى التطور. ومع تنامي الإحساس بالعجز، فإن ثنائية "الأنا – الآخر" ستعبّر عن انكماش "الأنا" وانغلاقها، ولم يكن من الممكن تقبل "الآخر" الحداثي، إلا بإخضاعه نظرياً عبر مزيد من الأسلمة التي مضت على قدم وساق. فبعد السياسة، تمت محاولات أسلمة التعليم واللباس والغناء والإعلام، وكان لا بد، أيضاً، من أسلمة عصب الحداثة الغربية: العلم.

وفي وقت قطعت فيه الحداثة الغربية علاقتها بالدين، لتحصره في مجاله الخاص، ألحّت "الأنا" الإسلاموية على أسبقية علمية إسلامية، بلغت ذروتها في الحديث الدائم عن الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، الذي لم يعد كتاب هداية فقط، بل كتاب علم أيضا. وفي الإصرار على تغييب السؤال عن المستقبل، والذي أعاق الوعي الاستشرافي، لصالح وعي تقليدي ماضوي، تمسك بدايةً بأولوية العلم الإسلامي، لينتهي إلى الإلحاح على أسبقية علمية إسلامية، يصبح المسلمون أوّل من علّم الأمم فن صناعة النسيج، وأوّل من اخترع الشطرنج، وأن عربياً مسلماً، يدعى خالد، في جنوبي إثيوبيا، اكتشف القهوة، وأنهم سبقوا الهنود في اختراع الصفر، بل كانوا الأسبق في اختراع المجاري (الصرف الصحي). أما ابن حزم، صاحب الفقه الظاهري الذي تمسك بالفهم الحرفي للنص ورفض أي تأويل، فقد سبق الإيطالي غاليليو غاليليه بخمسمائة عام إلى القول بدوران الأرض...، وغيرها مما امتلأت به كتيّبات الإسلامويين ووسائل تواصلهم الاجتماعي، والتي يفتقر معظمها، إن أصاب يسيرها، إلى التحقيق العلمي التاريخي، ناهيك عن غياب التحليل المنطقي.

الأسبقية العلمية الإسلامية لم ينجُ منها، هذه المرة، لا التاريخ ولا الجغرافيا، إذ فاجأنا، أخيراً، الرئيس التركي، رجب طيب أردوعان، فأعلن في "ملتقى قيادات المؤسسات الإسلامية في أميركا اللاتينية" أن البحارة المسلمين سبقوا كريستوفر كولومبس إلى اكتشاف أميركا، وأن كولومبس نفسه تحدث، في مذكراته، عن مسجد رآه فوق تلّة على ساحل كوبا. ثم عاد ليتمسك بأقواله، في وجه منتقديه، متعهدا بإثباتها. فهل يحاول أردوغان إعادة أسلمة تركيا؟

حافظ الأتراك على استقلالهم مبكراً، مقارنة بباقي بلدان العالم الإسلامي، واهتم كمال أتاتورك بتخليص تركيا من الإرث العثماني، حتى في أدق التفاصيل، فكان إلغاء الطربوش، كأحد الرموز التركية التقليدية، أمراً لا يقل أهمية عن إلغاء الخلافة، وتعرضت فكرة الشريعة للانتقاد، لترتبط، في الوعي التركي، بأسلوب حياة متخلف ورجعي.

ومع المضي في عملية التحديث، بدت "الأنا" التركية، شيئاً فشيئاً، أكثر توازناً في علاقتها مع "الآخر". مع ذلك، لم يتخل الأتراك عن الروح الإسلامية. لكن، حتى مع ظهور الحركات الإسلاموية، استمرت الأسلمة في تركيا، تتمحور حول الإسلام الأخلاقي، وليس حول الشريعة، وحرص الأتراك، دائماً، على أن يكونوا نموذجاً إسلامياً مختلفا عن محيطهم. ويبدو أن الدراما التركية التي انتشرت، أخيراً، بشكل ملحوظ،  ما زالت وفيّة لهذا التوجه. وعلى الرغم من أن إسلاموية "حزب العدالة والتنمية" كانت خيار الناخب التركي في مواجهة استبداد المؤسسة العسكرية العلمانية، فإن دراسة معهد "بيو" الأميركي، ونشرت العام الماضي، بيّنت أن نسبة من يؤيد تطبيق الشريعة لم تتعد في تركيا 12% مقارنة بـ 84 % في باكستان و 74% في مصر.

حقق حزب "العدالة والتنمية" قطيعة أبستيمولوجية مع الأيديولوجيا الإسلاموية التقليدية. وعلى الرغم من أنه لا يفصل الدين عن المجتمع، فقد تبنى برنامجا سياسيا خالصاً يلتزم التقاليد العلمانية، وقدم نفسه حزباً ديمقراطياً إسلامياً، على غرار الديمقراطيين المسيحيين في أوروبا.

لا شك في أن إعادة أسلمة تركيا، وفق الطريقة التقليدية، لن يكون أمرا ممكنا في المدى المنظور، لكن نكوص حزب "العدالة والتنمية"، بزعامة أردوغان، نحو إسلاموية تقليدية، أمر وارد، لا سيما إذا أخذنا في الاعتبار ما حملته السنوات الأخيرة من أعراض. إدخال التربية الدينية مادة اختيارية في المدارس، قمع المتظاهرين وتقييد حرية الرأي والتعبير، وحظر تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي، السياسة المتواطئة (والمغامرة أيضا) مع الجهاديين العابرين للحدود، تزايد أعداد الشبان الأتراك الذين التحقوا بـ"داعش"، وغيرها من التنظيمات الجهادية المتطرفة (تجاوز الألف)، محاولات توسيع صلاحيات رئيس الدولة. ذلك كله، مضافة إليه مفردات خطاب أردوغان الأخير، يطرح تساؤلاً حول مدى صلاحية "النموذج التركي" ليكون حلا لمشكلات الاستبداد والتطرف وتكيّف الإسلاموية التقليدية مع الديمقراطية.

إن الخطاب الذي لم يجد مبتغاه في الحياد العلماني، فتوسل ماضوية تقليدية في علاقته مع "الآخر"، جعل أردوغان يبدو كمن لا يدير ظهره لتقاليد "العدالة والتنمية" وحسب، بل، أيضاً، للشخصية التركية الحداثية، الأمر الذي يجعل جاذبية "النموذج التركي" عرضة لأن تفقد بريقها.

حسام أبو حامد
حسام أبو حامد
كاتب وصحافي فلسطيني. من فريق موقع العربي الجديد قسم السياسة.