مديح الحماقة

مديح الحماقة

08 نوفمبر 2014

أثر أشوري من القرن 9 قبل الميلاد (بغداد/Getty)

+ الخط -

عنوان هذه المقالة انتحلته من كتاب للمفكر النهضوي، إيرازموس، والنصف الثاني من العنوان ينطبق تمامًا على أحوال العرب اليوم. فالعرب، والمسلمون معهم، يلوح لي، لا علاقة لهم بالحضارات العظيمة التي قامت في هذه البلاد ثم بادت.

العراقيون الحاليون لا صلة لهم، على الإطلاق، بالكلدان والأشوريين والسومريين. وكذلك المصريون الحاليون، فهم والحضارة المصرية القديمة كطرفي المقص. ولا يوجد كتاب عربي واحد ذو قيمة يتحدث عن السومريين أو الكلدان أو الأشوريين أو الآراميين أو الفراعنة، وجميع معارفنا عن هذه الأقوام وضعه المستشرقون والآثاريون ثم تبعهم التابعون، وعلى أيديهم، عرفنا ملحمة غلغامش وقوانين حمورابي وأوغاريت وأبجديتها والحضارة المصرية القديمة والمكتشفات الباهرة لحضارة العراق القديم.

أما الآثار، كالأهرام مثلًا، فلم تكن لدى العرب إلا مجرد قبور لا أكثر، حتى أن المفردات الدالة على العمارة، مثل كلس وطوب وجص وآجر وقرميد، قلما كانت موجودة في لغتنا، لأن "أجدادنا" كانوا بدوًا مترحلين، والحواضر كانت مقصورة على الشام والعراق ومصر، حتى كلمة "المهنة" مشتقة من المهانة. فالعرب أصحاب سيف (غزو) أو أصحاب "بوش" (ماشية)، فالزراعة والمهن محتقرة في الفيافي، بينما كانت في الشام والعراق ومصر من دعائم المجتمع الحضري. لذلك، قُسم العرب إلى أهل وبر (البدو) وأهل مدر (بيوت اللِبن) وأهل حضر (سكان المدن). والأخيرون وحدهم الذين بقيت آثارهم "تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد".

ظلت جميع كنوز الأرض العربية كالآثار مطمورة آلاف السنين تحت التراب، والناس تقضي حاجاتها فوقها، إلى أن جاء الغرب لينبشها، ويزيل الأتربة عنها، ويسرقها في الوقت نفسه. ولولا شامبليون، لما اكتشف مصري مفتاح الكتابة الهيروغليفية في حجر رشيد، ولظل هذا الحجر مرميًا في العراء، إلى أمد طويل، من دون أن يعرف المصريون أي تاريخ عظيم كان لهم. أما الميدان الذي جال المسلمون فيه، وصالوا، فهو الفتيا.

وفي هذا الميدان، لدينا سجل كبير من الفتاوى الحمقاء، كتحريم التماثيل والصور، مع أن القرآن لا يتضمن أي آية تحرّم التمثيل والتصوير. ولو كان التصوير حرامًا، لما كان بعض الخلفاء صوّر نفسه على النقود، مثل عبد الملك بن مروان الذي سك العملة، ونقش عليها صورته في سنة 73 هجرية، ولما كان المثّالون صنعوا الأسود الحجرية في قصر الحمراء في غرناطة، أو التماثيل الأموية في قصر هشام في أريحا (خربة المفجر). لكن ذلك كان إسلام الشام، أما إسلام البوادي فهاكم مثاله:

استأجر الفنان المصري، محمد هجرس، أرضًا في حلوان، بعد عودته من لبنان في سنة 1982، وراح يصنع تماثيله فيها، فما كان من الفلاحين إلا أن خرجوا عليه، ودمروا أعماله، ورموها في ترعة الخشّاب، لأنها أصنام. وشنت امرأة منقبة، تدعى نادية عبد الستار، هجومًا على متحف الفنان حسن حشمت، في ضاحية عين شمس، في 19/4/2006، وحطمت أعماله، وكانت تصرخ بهستيرية: "هذا حرام يا عَبَدة الأصنام".

ليس غريبًا، إذًا، تحطيم الآثارات في سورية والعراق اليوم. إنه استمرار لوصايا الفقهاء الذين تغلبوا على النص المقدس، وتبعوا التوراة التي تقول في الوصايا العشر: "لا تصنع لك تمثالًا منحوتًا، ولا صورةً، عما في السماء". وعلى "هدي" هؤلاء، دمروا في العراق تمثال أبو جعفر المنصور الذي صنعه خالد الرحال (لأسباب طائفية)، وتمثال أبو الطيب المتنبي الذي نحته محمد غني حكمت، وحطموا الملوية (جامع سامراء الكبير). وفي سورية، سُرقت المتاحف والمعابد القديمة والكنائس التي تحتوي أجمل لوحات الفسيفساء في العالم، وباتت الآثار تُنقل، على المكشوف، إلى لبنان وتركيا والأردن، ومنها إلى التجار في أوروبا.

إنهم مقاتلون أميون وقتلة ولصوص ومنقبو آثار أنذال، وتجار منحطون ومهربون سفلة واستخبارات قذرة وقادة ميدانيون نهابون. إنها البهيمية الجديدة في أوضح تجلياتها.