صناعة الأزمات: خلفيات منح البرلمان الليبي الشرعية لكيانات مسلحة

صناعة الأزمات: خلفيات منح البرلمان الليبي الشرعية لكيانات مسلحة

06 نوفمبر 2014

متظاهرون في طرابلس ضد المحاولات الانقلابية وعملية الكرامة (12سبتمبر/2014/الأناضول)

+ الخط -

لا يشكل إعلان البرلمان الليبي (طبرق) عن التحالف مع عملية الكرامة واقعاً جديداً في السياسة الليبية، حيث يعد هذا القرار امتداداً لترتيبات سابقة، تتعلق بتبني الموالين لنظام معمر القذافي لرؤية للمرحلة الانتقالية، تقوم على قواعد وأهداف تخالف السياق الدستوري الانتقالي الذي تم إقراره في أغسطس/ آب 2011، ما يفسر تكرار المحاولات الانقلابية التي وقعت أحداثها منذ مارس/ آب 2014، والتي أعلن فيها العقيد المتقاعد، خليفة حفتر، عن تعطيل المؤتمر الوطني والحكومة وتشكيل حكومة انتقالية جديدة.

محورية دور الجيش

منذ عام 2012، شاع توجه لدى أنصار القذافي لإعادة بناء الجيش، بمعزل عن ثوار فبراير، وعلى هذا الأساس، تبلورت فكرة عملية الكرامة، لتقوم على أساس مقترح خليفة حفتر (30 يونيو/ حزيران 2013)، والذي ورد بعنوان (أولويات المرحلة القادمة)، ويتضمن خطة طوارئ لإنقاذ الوضع الأمنى في ليبيا، ويدور المقترح حول عدم صلاحية المؤتمر الوطني للاستمرار في إدارة المرحلة الانتقالية، ومن ثم، طالب بتعطيله واعتباره مجلساً تأسيسياً، تختزل مهمته في إصدار التشريعات الانتقالية، كما تبنى تشكيل حكومة جديدة من 12 وزيراً.

ويتكون الجزء الثاني من خطة الإنقاذ، في تكوين الجيش، ومنحه صلاحيات واسعة، لفرض الأمن وإعلان حالة الطوارئ، وإدماج الثوار في الجيش بتكوينه الجديد، ويتم تنفيذ السياسة الأمنية، تحت رقابة المؤتمر الوطني.

وطالب بالبدء في التمهيد لمرحلة انتقالية ثالثة، عبر حوار وطني يشمل كل الأحزاب والقبائل وقادة فصائل الثوار، وبمشاركة المؤتمر الوطني والحكومة، تكون نتائج ملزمة لكل الأطراف السياسية، وتقوم قاعدة الحوار الوطني على التوافق على الحد الأدنى، لمطالب كل طرف من (مدن/ قبائل/أحزاب/ ثوار)، ويتم استكمال الحوار الوطني بالإعداد لوضع الرؤية الاستراتيجية، من خلال صيغة "المؤتمر الوطني الجامع"، والذي ينعقد عبر ثلاث مراحل في طرابلس وسبها وبنغازي، للمساعدة في وضع أسس تحديث الدولة.

ويضمن المقترح وجود الجيش طرفاً رئيسياً في سياسات الدولة، فيما تتلاشى سلطات المؤتمر الوطني، ويتوزع جزء كبير منها بين الجيش الوطني و"المؤتمر الوطني الجامع"، وإلى جانب هذا التغيير في هيكل سلطات الفترة الانتقالية، لم يحدد المقترح موقفه من الإعلان الدستوري، وخصوصاً في ظل تقديم حفتر نفسه قائداً سابقاً لأركان الجيش.

وعلى الرغم من اعتماد مقترح أولويات المرحلة المقبلة على تصورات للاتقال السياسي السلمي، فإنه، مع بدايات العام 2014، اتجه حفتر إلى الحلول العسكرية، حيث أعلن عن ثلاث محاولات انقلابية. وفي 16 مايو/أيار 2014، أعلن عن بدء "عملية الكرامة"، للسيطرة على بنغازي، لتشكل المحاولة الأخيرة للسيطرة على مؤسسات الدولة، بمساعدة عسكريين سابقين ووحدات من الجيش الليبي والمتطوعين. ولكن، لم تشهد عملية الكرامة تقدماً في مواجهة الكيانات الثورية، ونتائجها تتقارب مع المحاولات الانقلابية السابقة، لكنه يسعى إلى تكوين جناح سياسي في مجلس النواب، يرتكز على نواب التيار المدني والنواب الجهويين.

ويمكن القول، إن البيانات والتصرحيات المتوالية قامت على اعتبار تكوين الجيش يلقى الأولوية دون المؤسسات الأخرى، بحيث تفيد بأن البرلمان هو السلطة التشريعية للجيش الذي يهيمن على كل المؤسسات، وهي فكرة تدور حول إعادة بناء الدولة، وفق النظام الأمني السابق، وهي خبرة يقل فيها حكم القانون فيما ترتقي السلطوية.

مسار العمل المسلح

وفي يوليو/ تموز 2012، بدا اتجاه لدى حفتر إلى دعوة جنود الجيش الليبي إلى العودة إلى معسكراتهم لاستكمال بناء الجيش، على اعتبار أن قيادات الجيش الليبي والرتب الصغيرة والجنود لم يكونوا يوماً من المناصرين للقذافي، وأن وجودهم تحت الانضباط العسكري والخوف من الكتائب الأمنية التي كانت شديدة الولاء له"، وقامت هذه الفكرة على أن عودة الجنود يكون لملء الفراغ الذي يشهده الجيش والشرطة وموازنة الميليشيات المسلحة والثوار.

وقبل أيام من تشكيل حكومة عبد الله الثني، صدر بيان (غات) في 19 مارس/ آذار 2014، حيث أكد على أن مدن بنغازي ودرنة وسرت تواجه هجوماً إرهابياً، وأن الدولة صارت في مواجهة مع الجماعات الإرهابية، ويتطلب الاستعانة بكل القدرات العسكرية للدولة والأمم المتحدة  لمواجهة الإرهاب والجماعات الإرهابية، وعلى الرغم من تكرار طلب الحكومة بمواجهة الجماعات، لكنها لم تحدد مسميات أو أسماء لهذه الجماعات، ما يعني فتح الاحتمالات لوضع قوائم للإرهاب، حسب الظروف المتغيرة التي تشهدها ليبيا، ولعل صدور هذا البيان قبل استقرار المؤتمر على منح الثقة للحكومة الجديدة يوضح استمرار التوجهات المثيرة للصراع والأزمات، وهي لا تختلف، في مضمونها، عن المحاولات الانقلابية التي تبناها أنصار االنظام السابق.

لسنا، هنا، بصدد تتبع مسار بناء الكيانات المسلحة بعد ثورة فبراير، لكن الاهتمام ينصب على توضيح خلفيات إعلان برلمان طبرق التحالف مع مليشات حفتر، حيث تكمن أهميته في أنه يضفي عليها المشروعية القانونية، وترويجها على أنها نواة الجيش الليبي، وهي خطوة تأتي في سياق متماثل مع مواقف شركاء ليبيا ودول إقليمية في الحديث عن "أولوية بناء الجيش الوطني" وحل كل المجموعات المسلحة، وكانت ثمة إشارات واضحة، في البيان المشترك، لدول أوروبية والولايات المتحدة، والذي ساوى بين عمليتي فجر ليبيا و الكرامة بأنهما كيانات غير شرعية، وتخالف القانون الدولي باستمرار عدم التزامها بوقف إطلاق النار.

الأمم المتحدة

ومع تبني بعثة الدعم في ليبيا البرلمان الليبي حلاً وحيداً وأخيراً، يتسع نطاق المعارك، وتتراجع الحلول السياسية، فقد جاءت الحماية البرلمانية لمسلحي "الكرامة" في سياق تصاعد انتهاكاتها ضد المدنيين في بنغازي، والإعداد لمرحلة تقترب بالبلاد نحو انفلات الحرب الأهلية، ويعكس تزامن هذه التصرفات تماثل أفكار ومصالح فريقي "طبرق" (حوالي 60 نائباً) والعسكريين السابقين المنضوين تحت "الكرامة"، وصار متوقعاً أن الخط السياسي يتجه إلى تبني العنف العشوائي المسلح خياراً نهائياً وأخيراً، وليس من مؤشرات لجدية أي مسار للتفاوض والتسوية السلمية.

وهنا، تبدو أهمية موقف الأمم المتحدة من الصراع المسلح في ليبيا، من وجهة رفض القرارات الأخيرة لبرلمان طبرق أو قبولها، على أساس القرار (2174)، أو إخلالها بمسار مفاوضات غدامس، حيث يمكن القول إن ما يثار عن تفاهمات عسكرية مع مصر يقع تحت المظلة القانونية لـ"بعثة الدعم في ليبيا"، وفقاً لمقتضيات الفصل السابع، ومن ثم، يساهم سكوت الأمم المتحدة عن هذه الإجراءات، أو القبول الصريح لها، ليس فقط في زيادة حدة الصراع السياسي من دون أفق واضح في المستقبل القريب، ولكن، أيضاً، في خفض فاعلية دور المنظمة الدولية في حل الصراعات.

اهتزاز الثقة بالانتخابات

ورغم إجراء انتخابات مجلس النواب في 25 يونيو 2014 تفاقمت الأزمة السياسية بما شكل معضلة في المرحلة الانتقالية، فإن إجراء الانتخابات في ظل أزمة سياسية وأمنية يزيد من الطعن في شرعية المؤسسات وتهدد الإطار الدستوري للدولة، فهذه الأوضاع، عادةً، ما تثير النزاع حول شرعية الانتخابات وحتى شرعية المؤسسات، فإن إجراء انتخابات بنغازي تحت استمرار القصف الجوي والاغتيالات زاد من الشكوك حول سلامة نتائج الانتخابات، فقد خلق قصف الطيران حالة اضطراب حالت دون توجه المراقبين إلى مراكز الانتخابات، وعزوف الناخبين عن الـتوجه إلى مراكز الانتخابات.

وقد تمكن أنصار النظام السابق من الحصول على مقاعد في مجلس النواب شكلت الركيزة التشريعية لعملية "الكرامة"، وهذه النتيجة كانت مثار جدل، وخصوصاً بعد ظهور وثائق تشير إلى ارتباط بعض النواب بالنظام السابق، وهي ترجع إلى تأجيل المفوضية الوطنية للانتخابات تطبيق قواعد "هيئة النزاهة" على المرشحين لما بعد إعلان النتائج المرحلية، وقد ساهمت هذه الإجراءات في وصول مرشحين كثيرين وأنصار للقذافي إلى مجلس النواب، على خلاف القانون رقم (10/ 2014)، حيث تتطلب صحة الترشيح وجود شهادة من "هيئة النزاهة" بعدم انطباق معاييرها على المرشح، وتمتعه بالحقوق السياسية.

وبشكل عام، يساهم تسارع الأحداث فى تبلور التناقضات السياسية والعسكرية، فقد ظلت قرارات مجلس النواب (طبرق) أكثر تحفيزاً لاتساع التباين بين الأطراف المختلفة، وكانت تعبر عن روح تصعيدية وإقصائية، فمنذ انعقاده، شكلت القرارات الصادرة عنه محور الخلاف والصراع المسلحة، ولم يتبن تصوراً للحلول السلمية، أو يتـأمن مع مقترحات الأمم المتحدة للحوار، ولعل هذه التوجهات تجعل مهمة جمع السلاح مستحيلة، لتعذر وجود مناخ الثقة، وهيمنة الخلافات على العلاقات بين الأطراف الليبيبة.

وفي ظل هذه الظروف، لم يكن متوقعاً صدور مبادرة من البرلمان (طبرق)، تدعم مسار الحوار الوطني في غدامس، وهذا ما يرجع إلى تلاقي عوامل، في مقدمتها التحالف الطبيعي مع "الكرامة"، والذي أعلن عنه مرشحون كثيرون في الانتخابات التشريعية، بشكل يوضح أن البرلمان يقترب من كونه الجناح السياسي للعملية المسلحة، أو الجيش لاحقاً، كما أنه يستفيد من الاعتراف الدولي في إسباغ الشرعية على تصرفاته وقراراته، من دون تحويلها لمصالح مشتركة لكل الليبيين.

لكنه، على أية حال، لا يبدو حدوث تغيرات جذرية في المشهد السياسي في ليبيا، حيث تستمر المواجهات المسلحة في بنغازي، وتغيب سيطرة حكومة طبرق عن غالبية المناطق، وهو ما يشكل تحدياً حقيقياً للمشروع السياسي والعسكري لعملية الكرامة، والذي يقوم، في معظمه، على إعادة الاعتبار إلى مقومات النظام السابق؛ الفكرية والسياسية والتنظيمية، حيث أن اتساع سيطرة حكومة "فجر ليبيا"، وانحسار المعارك الرئيسية في بعض ضواحي بنغازي يقلل فرص استعادة مسلحي حفتر زمام المبادرة في المعارك في المنطقة الشرقية.

5DF040BC-1DB4-4A19-BAE0-BB5A6E4C1C83
خيري عمر

استاذ العلوم السياسية في جامعة صقريا، حصل على الدكتوراة والماجستير في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، وعمل باحثاً في عدة مراكز بحثية. ونشر مقالات وبحوثاً عديدة عن السياسية في أفريقيا ومصر والشرق الأوسط .