أبيي.. الدائرة صفر في السودان

أبيي.. الدائرة صفر في السودان

03 نوفمبر 2014

تظاهرة للمسيريّة في الخرطوم احتجاجاً على أوضاع أبيي (نوفمبر/2012/أ.ف.ب)

+ الخط -

لا تزال تبعية منطقة أبيي رسمياً لأيٍّ من الدولتين: السودان أم جنوب السودان، وشعبياً لأيٍّ من القبيلتين: المسيرية أم دينكا نقوك، تمثل أحد الملفات الشائكة بينهما، على الرغم من تكوين هيئة إدارية مشتركة، إلى حين حسم القضية. وبإعلانها من مفوضية الانتخابات السودانية دائرة جغرافية ضمن 213 دائرة، واعتمادهما ضمن الخريطة الجغرافية لانتخابات 2015، باعتبارها منطقة تابعة للسودان، يتجدد الاعتراض الذي يتراوح بين الاستهجان والاستنكار. الاستهجان من أهالي المنطقة الذين يرون في عدم حسم ملف القضية سبباً كافياً لاستثناء المنطقة من الانتخابات. والاستنكار من السلطان، بلبك دينق كوال، سلطان عشائر دينكا نقوك الذي تمسك بنتائج استفتاء أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، وشاركت فيه قبيلته من دون مشاركة قبيلة المسيرية، برئاسة ثامبو أمبيكي الرئيس الجنوب أفريقي السابق ورئيس الآلية الأفريقية رفيعة المستوى، وأمّن عليه مجلس السلم والأمن الأفريقي.

هذه المنطقة الغنية بالنفط، والتي تتخذ موقع الخاصرة في السودان القديم، وعلى الحدود بين الدولتين بعد انفصال جنوب السودان عام 2011، ما زال سكانها متنازعة إثنيتهم بين قبيلتين، المسيرية ذات الأصول العربية والموالية لحكومة الخرطوم، وقبيلة الدينكا الجنوبية المدعومة من حكومة جنوب السودان، وينحدر منها رئيس دولة جنوب السودان، سلفاكير ميارديت.

عرّفت محكمة التحكيم الدولية في لاهاي أبيي بأنّها المنطقة التي حولتها، من جانب واحد، الإدارة الاستعمارية عام 1905 من الجنوب إلى الشمال، حيث أحيلت فيها مشيخات دينكا نقوك التسع إلى إقليم كردفان. واعتبرت قبيلة المسيرية أنّ تعريف المحكمة الدولية وثيقة تؤكد تبعية أبيى للشمال. بينما استندت قبيلة دينكا نقوك على رواية الرحالة براون التي أشار إليها في مذكراته، وقال فيها إنّه عندما زار المنطقة عام 1798 وجد مجموعة من الدينكا تسكن في المناطق المتاخمة لبحر العرب. ويرى دينكا نقوك أنّهم سكنوا على ضفاف نهر الزراف، ثم انتقلوا إلى مناطق بحر العرب، قبل المسيرية، ولا توجد وثائق تثبت أو تدحض زعم أيٍّ من الطرفين.

وعلى الرغم من عدم الاستقرار في المنطقة التي تصرّ فيها كلٌّ من القبيلتين على تبعيتها لها، إلّا أنّهما كانتا تتقاسمان النشاطات الاقتصادية المختلفة، والتي يغلب عليها الرعي، بتحديد مساحات معلومة، باتفاق زعماء العشائر، لا تتجاوزها أيٌّ منهما، من دون قعقعة لسلاح ولا أزيز مدافع، وحدها الحكمة الأهلية أسهمت، زمناً طويلاً، في حل المشكلات وديّاً.

قضية أبيي يفضحها طموح شعب المنطقة في العيش السلمي والرعي على سهولٍ واحدة، كما تكشفها حيرة سحبها المثقلة على قمة هضبة "النيمانج"، والتي، بفعل أحابيل السياسة، لم تدرِ أتمطر جنوباً أم شمالاً. ولأنّ الحرب تقوم على طموح القسمة الضيزى لمن يفترض غياب عقولهم في ظلام السلطة، وقسوة قلوبهم عن إدراك معنى هذا التعايش، يكون لزاماً على شعب المنطقة أن يدفعوا ثمن صمتهم منذ أيام السير ريجنالد ونجت، الحاكم العام الإنجليزي الذي قرر في 1905 ضم بحر الغزال إلى كردفان لاعتبارات إدارية. وإلى أن أصدر السكرتير الإداري، السير هارولد مكمايل قراراً بوضع حدٍّ إداري فاصل بين قبيلتي المسيرية ودينكا نقوك. ثم مروراً بعثرات التاريخ السياسي إلى اليوم الذي برزت فيه قضية أبيي قضية عالقة منذ توقيع اتفاقية السلام الشامل في نيفاشا الكينية عام 2005 بين حزب المؤتمر الوطني الحاكم والحركة الشعبية لتحرير السودان. وبعد أن كان النزاع بين إقليمين داخل وطن واحد تحوّل إلى نزاع بين دولتين، بعد انفصال الجنوب.

وبهذا، كانت نتيجة اتفاقية نيفاشا للسلام تقسيماً وسلاماً مموّهاً، بل حرباً أخذت، أول ما أخذت، في طريقها، من مهر توقيعها بدمه، العقيد جون قرنق، زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان وأحد الطرفين الرئيسين الموقعين على الاتفاقية الذي قضى في حادثة طائرة في 30 يوليو/تموز 2005، بعيد تنصيبه النائب الأول لرئيس جمهورية السودان بأيامٍ. وبذا يظهر كيف أنّ أمر السلام ليس مرهوناً بتوقيع الاتفاقيات، وقضية التعايش بين أبناء الوطن الواحد تعيق مجراها رواسب ضغينة الظلم من حقوق منتزعة أو مطموع فيها.

ليست أبيي وحدها، وإنّما السودان نفسه هو ذات السودان الذي جعلته الكوارث المتعاقبة وعاء للفناء، حيث ما زالت تسكن ضمائر حكامه نزوات الالتفاف حول السلطة وغرائزه. وكل هذا يحدث على جسد الوطن الذي تناثرت أجزاؤه أشلاء. وما وصول الجنوب إلى الانفصال، ولا استفحال أزمة الشرق، ولا تعقيد مشكلة إقليم دارفور إلا تكسّر للنصال على جسد الوطن الأعزل، المحفوف بالنعرات القبلية والتكتلات العشائرية.

ما دامت هناك قضية في أبيي، تسيطر على أمل القضاء على مشاهد الحرب، لن يرى المسيرية أو الدينكا جمال بحر كير، ولن يستظلوا بغزارة أشجار الأبنوس والهجليج والطلح، ولن يلوّن أجسادهم لهيب الطقس الاستوائي، ولن تحتويهم رحابة بيوت قرى الميرم التي تغطيها ثمار الباباي. والأعظم من ذلك أنّه لن تُحلّ معضلة أبيي، وما زالت تتدلى من عنق الوطن عقدة العنصرية، تشنق الجميع في غابتها الاستوائية.

8615DCBC-E386-43F8-B75E-8FF0C27360A3
منى عبد الفتاح

كاتبة صحفية من السودان. حاصلة على الماجستير في العلوم السياسية. نالت دورات في الصحافة والإعلام من مراكز عربية وعالمية متخصصة. عملت في عدة صحف عربية. حائزة على جائزة الاتحاد الدولي للصحفيين عام 2010، وجائزة العنقاء للمرأة المتميزة عام 2014.