سنّة العراق والموقف الاستراتيجي المطلوب

سنّة العراق والموقف الاستراتيجي المطلوب

25 نوفمبر 2014

زعماء عشائريون سنة في مؤتمر لهم في الرمادي (8نوفمبر/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

عندما تسلم رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، منصبه، استبشرت خيراً دول كثيرة، العربية منها خصوصاً، وربما الخليجية منها تحديداً، وافترضت أنه سيستطيع، بعد فترة مظلمة عاشها العراق تحت الإدارة السيئة لرئيس الوزراء السابق نوري المالكي، أن يكون أكثر اعتدالاً، وبالتالي، عدالةً في ميزان التطرف الطائفي الذي كرّسه المالكي، مما يعني، وفق هذه النظرة المتفائلة، كسب المكون السنّي المهمش في العراق، وخصوصاً شيوخ عشائرهم، للتخفيف من حدة الحالة الأمنية شبه المنهارة من جهة، ولقتال تنظيم الدولة الاسلامية من جهة أخرى، لكن التوقعات والآمال في داخل العراق، وتحديداً من الأطراف التي تعامل فيه كـ (أقلية) لم تكن بهذا التفاؤل، ولا بهذه التوقعات، وإن كان الجميع، بالطبع، فرحاً بمغادرة المالكي المشهد.
ومع مرور وقت العبادي في رئاسة الوزراء، وعدم حدوث أية متغيرات في طبيعة العلاقة مع المتضررين في العراق واستمرار عدم الاستجابة لمطالبهم التي تقدموا بها للحكومة السابقة،  وخصوصاً في المناطق الساخنة في الأنبار وصلاح الدين ونينوى وديالى، ومع التطورات القوية في حالات المواجهة مع تنظيم الدولة الإسلامية في هذه المحافظات وسواها، وتهديده العاصمة بغداد، بات أمر العشائر السنّة القوية، أو المتحالفة معها، على محك كبير وخطير، ذاك هو بوضوح شديد، إما أن يكونوا مع  الحكومة المركزية في بغداد لقتال "داعش"، أو يكونوا مبايعي "داعش"، ومقاتلين إلى صفها لإسقاط الحكومة التي تتعامل معهم مواطنين من الدرجة الثانية (بحسب وصفهم)، أو أن يكونوا على الحياد، وهذا يعني مبايعة الخليفة أبو بكر البغدادي، حتى تعتبر مناطقهم مناطق نفوذ لمقاتليه، مؤمنة بعهود ومواثيق، لا يخشى من الإخلال بها. ووسط هذه الخيارات الثلاثة، انقسمت العشائر السنيّة العراقية انقساماً شديداً، مما سمح للمكون الآخر باختراق مناطقها، تحت مسمى "الحشد الشعبي"، وبذريعة محاربة تنظيم الدولة الإسلامية، وهذا، بدوره، أفضى، أيضاً، إلى خيارات فرعية أخرى، بات على شيوخ العشائر، وخصوصاً القوية والكبيرة منها، اتخاذها.

كان لتنظيم الدولة الإسلامية تجربة سيئة مع بعض العشائر العراقية في مناطق نفوذه، حيث تمكنت ثلاث من عشائر الأنبار من إيقاف مسلحيه، وتعطيل مشروعهم في التقدم السريع صوب بغداد، وهذه العشائر هي البوفهد في (الرمادي)، والتي منعت دخول أي تنظيم مسلح لها، والجغايفة في (حديثة) التي تحكم سيطرتها على القضاء والسد المائي فيها، إضافة إلى عشيرة البونمر التي تعد من العشائر الثائرة ضد تنظيم القاعدة وداعش، وهي من حافظت على المدينة وسكانها من الإرهاب، وقاتلت بضراوة في (هيت)، حتى سقوطها بيد "داعش" ومقتل عشرات من رجالها، بعد أن أسرهم مقاتلو التنظيم، كما صمدت قبيلة الجبور في منطقة (الضلوعية) في محافظة صلاح الدين أمام محاولات "داعش" اختراق مدينتهم، من البر والنهر.
هي، إذن، تجربة سيئة لم يمر بها التنظيم في سورية، تجعله متمكناً بيسر من كسب معاركه مع القوات الحكومية في سورية والعراق، ثم التوقف وعدم القدرة على دخول مدن وقصبات بضعة أشهر، على الرغم من إمكاناته القوية تدريباً وتسليحاً، وضعف التسليح والتجهيز لدى أبناء هذه العشائر.
تستدعي التجربة السيئة التي مرّت بها العشائر العراقية السنيّة توقفاً كبيراً، وقرارات جريئة وحاسمة، وسبب وصف التجربة بالسوء أنهم جعلوا وسط عملية ماكرة، شاركت فيها عدة جهات؛ بعضها محلي معروف بنفسه وأدلجته الطائفية، والآخر إقليمي، لا يريد لأي احتمال على الأرض أن يؤخر مشروعه تصدير الثورة وتشييع المنطقة، وأيضا دولي، فيه كلام كثير، قد لا ينصب الآن في صلب موضوعنا هذا.
نبدأ من الحكومة العراقية التي وعدت العشائر العراقية بتقديم كل ما يلزم، من أجل صمودها، لا بل نصرها على تنظيم الدولة الإسلامية، وكانت الكبوة الأولى مع قبيلة الجبور في الضلوعية، حيث تركوا مع قدرهم، ثم حديثة التي بات صمود عشيرة الجغايفة فيها مثار إعجاب دول كثيرة، وفي مقدمتها الولايات المتحدة. ولكن، لا وجود يذكر لإسناد حكومي واضح. ثم عشيرة البونمر التي باتت الفضائيات تتناقل صور أبنائها التي نفذ فيهم التنظيم عمليات إعدام جماعية بشعة، بعد أن أسرهم في معارك قضاء هيت وما حوله، كما أن العشائر التي تدافع عن عامرية الفلوجة، والقريبة جداً من العاصمة بغداد، ما زالت تستغيث وتطالب الحكومة، لا بل العالم، بإسنادها؛ حيث يطبق عليها تنظيم "داعش" من ثلاث جهات. وفي كل هذه التجارب مع الحكومة العراقية، يبرز سؤال مركزي، واضح ومباشر: لماذا لا تقدم الحكومة العراقية دعماً عسكرياً، أو لوجستياً لهذه العشائر، وتكتفي بالدعم الإعلامي، أو بحدود بسيطة جداً، ضمن تمكينها من الصمود فترات قليلة جداً؟

تجعلنا الإجابة عن هذا التساؤل نتوسع في موضوعي المشروع الإيراني في المنطقة، انطلاقاً من العراق بعد 2003، وموضوع آخر يرتبط به ذاك، هو عدم السماح لحضور سني (قوي) بأي شكل من امتلاك وسائل القوة، حيث يمتلك كثيرون من أبناء هذا المكون (على افتراض الأحزاب الشيعية والحكومة التي تمثلهم) وسائل القدرة الذاتية على الإدارة والتغيير. يرتبط السبب الأول بإيران مباشرة، ولذلك، كان مقترح (الحشد الشعبي) وسيلة مكشوفة لإدخال الإيرانيين في القتال المباشر، ومن ثم الوجود في مناطق كانوا لا يستطيعون أن يطأوها في الأوضاع العادية. ولهذا أيضاً، بات الظهور العلني لقاسمي سليماني في مناطق، مثل آمرلي وجرف الصخر، مسألة طبيعية، بينما كان وجوده في المنطقة الخضراء، أو السفارة الإيرانية في بغداد، قضية أمنية بالغة الصعوبة والدقة، للحفاظ على سرية وجوده أولاً، وللحفاظ على أمنه ثانياً.
ولأن إيران تعتبر السنّة في العراق، ودائماً يجب أن نردف هذا الوصف بالقوة، فنقول (السنّة الأقوياء)، من يشكلون، في أية لحظة، عنصر القوة المباغت الذي يمكن أن يؤخر مشروعهم في الشرق الأوسط والعالم، أو يوقفه تماماً. لذلك، أعين الأجهزة الإيرانية دائما مفتوحة على حركة نشاط وبناء وتطور العشائر السنّية، باعتبارها الممثل الأوضح للسنّة، في الوقت الحاضر، مما يستدعي تفكيك هذه العشائر بالمال أو القوة، أو بتوريطهم بقتال مع جهة ما، من دون تمكينهم من وسائل الحسم النهائي.
وتفضي تجربة عدم مساعدة الحكومة العراقية العشائر السنيّة التي تقاتل داعش إلى تحليل يقول إن الحكومة تستخدم هذه العشائر دروعاً بشرية، تبطئ تقدم أفراد هذا التنظيم صوب بغداد، فإن انتصرت داعش كان انتصارها خلاصًا من قوة ضاربة، متمرسة في القتال والصبر عليه، عنيدة في المطاولة على طلب حقوقها، مؤمنة بوطنيتها. والأهم مثقفة بالفطرة، بدور إيران في العراق والمنطقة، وإن لم تنتصر، ستبقى هذه العشائر ضعيفة إلى حد كبير. أما إذا انتصرت هذه العشائر من خلال دعم الحكومة لها، فإن هذه الحكومة تخشى من تحول بنادق هذه العشائر وإرادتها صوب التغيير الفعلي المباشر لطبيعة الحكم والعملية السياسية هناك. ومع استمرار القتال في المناطق الغربية والشمالية والشرقية من العراق، ونتيجة الضرر الذي أصاب العشائر القوية في هذه المناطق، وخصوصاً في الأنبار التي أعلن، أخيراً، 40 شيخ عشيرة فيها تشكيل تحالف فيما بينهم لمواجهة تنظيم "داعش"، والذي هو في حقيقة الأمر، أيضاً، تحسبا لدور المليشيات القادمة من بغداد والجنوب العراقي باسم (الحشد الشعبي)، هذه المليشيات المتهمة بانتهاكات موثقة ضد حقوق الإنسان، والتي تقدم لها حكومة العبادي، حالياً، دعما مفتوحاً، بلغ بحسب وزير المالية العراقي، هوشيار زيباري، أكثر من مليار دولار منذ يونيو/حزيران الماضي، وهو ما اعتبره زيباري يقوض، إلى حد كبير، جهود المحافظة على العراق؛ ولعل من المهم الذهاب الى تصريح زيباري في الرابع من نوفمبر/تشرين ثاني الجاري، والذي اتهم فيه "زعماء العراق السابقين (المالكي) والحاليين (العبادي) بسوء الإدارة وسوء التخطيط والفشل في التواصل مع الأشخاص الوحيدين الذين يمكنهم هزيمة الدولة الإسلامية، وهم العشائر السنيّة".

ما يحدث في العراق يتخطى قدرة العبادي المحدودة في الإدارة والقيادة. لذلك، الأمر متروك بالكامل للإدارة الإيرانية التي تمتلك من الخبرات والقوة والإمكانات ما يفوق ساسة العراق الحاليين، إضافة إلى أن مشتركين كثيرين في العملية السياسية العراقية الحالية يعتبرون إيران حليفاً استراتيجياً للعراق. هذه المعلومات والحقائق   يعرفها كل العراقيين، وتعرفها معظم الدول، وخصوصاً الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية وتركيا وغيرها. وتحتاج هذه الحقيقة إلى أن يتخذ سنّة العراق موقفا استراتيجيا لمواجهة مخطط، يهدف إلى تفتيتهم وتحويلهم إلى فتات، لا يعني وجودهم أي تأثير على المشروع الإيراني في العراق والشرق الأوسط.
سنّة العراق بحاجة إلى قيادات توحدهم لإنقاذ العراق والمنطقة مما يجري وسيجري من أحداث ومتغيرات، ستفضي إلى متغيرات جيوسياسية كبيرة، كما هم بحاجة لتحالفات مع قوى إقليمية، ستساعدهم حتماً عندما ترى فيهم قيادة يمكن التعامل معها، ولها نفوذها على الأرض. نعم، فذاك الأمر ليس خيانة للعراق، ولا هو عمالة لأحد. ولأن الوقت لا ينتظر أحداً، ولأن تجارب التاريخ دروس للمستقبل يجب اعتبارها، لذا فإن سنّة العراق، بعشائرهم وقياداتهم السياسية والعسكرية، وكل شرائحهم الثقافية والعلمية، مطالبون بموقف استراتيجي حاسم، وأن لا يتغافلوا عن رؤية المشهد بكامله، وليس بجزئية "داعش" فقط.

F51601CD-AABE-44C5-B957-606753EEC195
فارس الخطاب

كاتب عراقي مقيم في لندن