نفوذ إيران الإقليمي أخطر من برنامجها النووي

نفوذ إيران الإقليمي أخطر من برنامجها النووي

20 نوفمبر 2014

كاثرين أشتون ومحمد جواد ظريف في محادثات فيينا (18يوليو/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

الآن، وقد أصبح التوصل إلى اتفاق حول برنامج إيران النووي أمراً شبه مؤكد، بعد جولة محادثات مسقط أخيراً، ربما أصبح المطلوب عربياً، أو تحرياً للدقة خليجياً، بعد أن جعلت إيران المشرق العربي يتلاشى، بزعمها سقوط أربع عواصم عربية تحت سيطرتها، أصبح مطلوباً مواجهة جملة حقائق عارية عن التنميق والتجميل، يؤكد بعضها نجاح إيران، في تحقيق جزء من أهدافها، وفشلها في بلوغ أخرى كثيرة. من الأهداف التي نجحت إيران في بلوغها شق صف دول مجلس التعاون الخليجي حيالها، وما استضافة مسقط المفاوضات النووية، علناً هذه المرة وسراً في العام الفائت، إلا دليلاً على ذلك. كما نجحت إيران في إنشاء حالة تفاوض، تكاد تكون فريدة في تاريخ العلاقات الدولية، فهي وإن كانت مهتمة بالتفاوض مع الطرف الأميركي حصراً دون غيره، كما بيّنت ذلك اللقاءات، أخيراً، السرية منها والعلنية، حيث كانت المحادثات تقتصر على وزيري خارجية البلدين، وإن بحضور كاثرين آشتون التي كانت تلعب دور المسهل للعملية (facilitator)، أكثر من كونها طرفاً تفاوضياً، مع ذلك، تمكنت إيران، من الناحية الشكلية على الأقل، من فتح باب التفاوض حول برنامجها النووي مع مجلس الأمن مجتمعاً مضافاً إليه ألمانيا. وعلى الرغم من أن هذه الحالة تتكرر مع كوريا الشمالية التي تفاوض، من جهتها، خمس دول أيضاً، هي إضافة إلى الولايات المتحدة، روسيا والصين واليابان وكوريا الجنوبية، إلا أن الأزمة في شبه الجزيرة الكورية تبقى إقليمية، في حين تتفرد إيران بأنها تقع على تخوم منطقةٍ، تستأثر باهتمام عالمي، يمثّله مجلس الأمن، مجتمعاً بقواه الخمس الكبرى، فضلاً عن القلب الأوروبي الحاضر من خلال ألمانيا. الأهم من هذا كله أن إيران تمكنت، وأكثر من عشر سنوات، ويمثل هذا ربما نجاحها الأبرز، من صرف الاهتمام الإقليمي والدولي إلى برنامجها النووي، في الوقت الذي كانت تعمل فيه في غفلة من الجميع على بناء مناطق نفوذها الإقليمي في عموم المشرق العربي، وحتى الجزيرة العربية، فمنذ الكشف عن وجود هذا البرنامج أواخر عام 2003، تركز الاهتمام على الأداة أو الوسيلة (امتلاك التقنية النووية) على حساب الغاية، وهي تحول إيران إلى قوة إقليمية مهيمنة في عموم منطقة الخليج والشرق الأوسط.

كانت إيران، إلى جانب الصين وروسيا، أكثر المستفيدين من هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 ضد الولايات المتحدة، إذ أطاحت واشنطن بعدها ألد خصوم إيران الإقليميين، في الشرق، أزالت حكم حركة طالبان في أفغانستان، وفي الغرب، غزت العراق وحطمت آلته العسكرية، التي طالما شكلت حائط الصد الأساسي للنفوذ الإيراني منذ ما قبل سقوط حكم الشاه عام 1979.

خلال العقد التالي، انصرفت إيران إلى بناء مقومات قوة إقليمية مهيمنة، مستفيدة من الارتفاع الكبير في أسعار النفط، ومن بيئة جيوبوليتيكية، تغيرت بشدة لصالحها، بفعل التدخل العسكري الأميركي المباشر، فتحول العراق، تدريجياً، من خصم إلى منطقة نفوذ، مع وصول حلفاء طهران من الأحزاب والتيارات السياسية والدينية إلى السلطة، وسيطرتهم على مقدرات الدولة العراقية. بالمثل، استفادت إيران من ظروف العزلة الإقليمية والدولية التي فرضت على النظام السوري، عقب اتهامه باغتيال رئيس الوزراء اللبناني الاسبق رفيق الحريري، وتحولت إلى راع إقليمي له. كما استغلّت إيران العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006، وعلى غزة مطلع عام 2009، لتجعل من نفسها قائداً لمحور المقاومة، ولاعباً لا غنى عنه في ميزان الصراع العربي-الإسرائيلي.

مع مجيء إدارة أوباما إلى الحكم، بدأت طهران تستعد لإتمام عملية ربط مناطق النفوذ التي بنتها في المنطقة الممتدة من هيرات غرب أفغانستان، حيث تقطن قبائل شيعية قريبة إلى إيران، وحتى ساحل المتوسط في بيروت وغزة، مروراً ببغداد ودمشق. وكان أوباما الذي جاء على خلفية أزمة اقتصادية ومالية طاحنة، قد وعد بسحب القوات الأميركية من العراق، بنهاية عام 2011، ومن أفغانستان بحلول آخر عام 2014. شكلت هذه الوعود طلائع الانكفاء الأميركي في المنطقة، وكانت إيران تتحرق لملء الفراغ، لكن الربيع العربي حلَّ مبكراً، في عام 2011، ولمّا يكن الأميركيون قد أنهوا انسحابهم بعد، ولمّا تكن إيران قد انتهت بعد من تنفيذ مشروعها، فانقلبت حساباتها رأساً على عقب.

وهكذا، وفي الوقت الذي كانت تنسحب فيه القوات الأميركية من العراق، وتتسلم إيران مواقعها، بالمعنى السياسي، كانت قواعد النفوذ الإيراني في سورية تتآكل وتنهار. وما كان قد بدا وكأنه لحظة إعلان قيام الامبراطورية، تحول إلى كابوس زادت من وطأته سيطرة داعش، صيف العام الجاري، على ثلث العراق وإعادة تحويل مناطق النفوذ الإيراني إلى جزر معزولة. وبالتوازي مع ترنح النفوذ الإيراني في عموم المشرق العربي، بدأت العقوبات الاقتصادية الغربية تفعل فعلها في الاقتصاد الإيراني المنهك بعقود من الحصار والعزلة. هنا فقط، بدأ الملف النووي الذي برز وسيلةً لجعل إيران دولة إقليمية مهيمنة يتحول إلى عبء يمكن أن يهدد ليس فقط مشروعها الإقليمي، بل نظام ولاية الفقيه نفسه. في هذه اللحظة التي بلغت فيها الضغوط الاقتصادية والسياسية مداها، حصل التحول في تفكير مرشد الثورة والنخبة الحاكمة المحيطة به، لإنقاذ ليس المشروع فقط، بل النظام نفسه، أما الثمن فهو التخلي عن الأداة التي تحولت من مصدر قوة إلى نقطة ضعف قاتلة، البرنامج النووي.

بالنسبة إلى دول الخليج العربية، لن يغير تخلي طهران عن برنامجها النووي الكثير، فهذا البرنامج أعدّ أصلاً ليتم التفاوض عليه، وتلقي ثمن التخلي عنه بعد استنفاد الغرض منه، بدليل أنه، ولعدة سنوات، ظلت التقديرات تفيد بأن "إيران بعيدة بضعة أشهر فقط عن امتلاك القنبلة النووية"، وظلت كذلك حتى اليوم. تدرك إيران، قبل غيرها، أن السلاح النووي غير قابل للاستخدام، إنما هو أداة ابتزاز وتهويل، وهو، فوق ذلك كله، غير قادر على كسر إرادة الطرف الذي لا يمتلكه، بدليل أن إسرائيل التي تمتلك ترسانة نووية، يتجاوز عدد رؤوسها الحربية الـ200، لم تتمكن من فرض إرادتها على الفلسطينييين، دع جانباً مسألة فرض إرادتها على العرب مجتمعين، على الرغم من ظروف ضعفهم الراهنة.

واقع الأمر أن البرنامج النووي الإيراني لم يشكل يوماً التهديد الأكثر جدية لدول الخليج العربية، ومن ثم، لن يعني التخلي عنه استطراداً أن التهديد الإيراني قد زال. فالتهديد الحقيقي يتمثل في جيوب النفوذ الإيراني، وفي ترسانة الأسلحة التقليدية التي تمتلكها إيران، وعلى رأسها آلاف الصواريخ البالستية القادرة على بلوغ كل نقطة في منطقة الخليج والشرق الأوسط، ولا يتحدث عنها أحد. وما يجب أن يقلق دول الخليج فعلاً، أن تتمكن إيران من تطبيع علاقاتها مع الغرب، ورفع العقوبات الاقتصادية، في حين تستمر في تعظيم قدراتها العسكرية التقليدية.

هذا الأمر يدركه الأميركيون تماماً. لذلك، لم يكن الموضوع النووي أكثر ما يقلقهم، كما يبدو على السطح، البرنامج النووي همّ إسرائيلي، وليس هماً أميركياً، جهدت واشنطن في معالجته، إرضاء لإسرائيل التي تريد أن تستمر في احتكار ملكية التقنية النووية. في الأثناء، حاولت إدارة أوباما في الجولات الأخيرة من المفاوضات النووية أن تدرج، على جدول أعمالها، موضوع قدرات إيران الصاروخية البالستية، في محاولة لطمأنة حلفائها الخليجيين بأنها تهتم أيضاً بمخاوفهم. وتعرف واشنطن أن نووي إيران الحقيقي يتمثل في قدرتها على إغلاق مضيق هرمز الذي يعبره يومياً 40% من نفط الخليج، ولا تحتاج إيران إلى سلاح نووي حتى تقوم بذلك. ويجب أن يثير القلق بالدرجة نفسها اقتراب إيران من التحكم بمضيق باب المندب، بعد سيطرة حلفائها الحوثيين على أجزاء واسعة من اليمن.

إذن، الموضوع الرئيس عربياً وأميركياً، وإن كان عنوانه الملف النووي الإيراني، إلا أنه يجب أن يدور، في جوهره، حول نفوذ إيران الإقليمي وقدراتها التقليدية. من هنا، يجب أن يكون الاهتمام بقدرات إيران البحرية في الخليج يوازي الاهتمام بمفاعلاتها النووية. وإذا كان، ولا بد من التركيز على الموضوع النووي، فمن باب الضغط على إيران، لتغيير سلوكها، لأنه لا يمكن محاسبة إيران، سياسياً وقانونياً، على ما تمتلكه، أو تسعى إلى امتلاكه من وسائل دفاع تقليدية.

إن تغيراً حقيقياً في علاقة إيران بالمنطقة لن ينجم عن تخلي إيران عن برنامجها النووي، بل سيكون فقط عندما تقبل إيران أن تكون دولة طبيعية في المنطقة، وأن تتوقف عن التطلع إلى ما وراء حدودها، للعب دور مهيمن على حساب الجيران، ومحاولة التدخل في شؤونهم وفرض رؤيتها عليهم. فقط التغيير في الرؤية والسياسة هو ما يسمح بالتقارب، وليس التخلي عن أدوات للهيمنة واستبدالها بأخرى.