رداً على مأمون كيوان.. وعد نابليون لليهود خرافة

رداً على مأمون كيوان.. وعد نابليون لليهود خرافة

13 نوفمبر 2014

عمل لـ(ديسكون كاليد ديباي)

+ الخط -

قرأتُ في "العربي الجديد" (2/11/2014)، مقالة للصديق مأمون كيوان، عنوانها "وعود ما قبل بلفور" عرض فيها بعض الوعود التي نالها اليهود من دول شتى في العالم، وذكر منها "وعد نابليون"، أو نداءه إلى اليهود في سنة 1799. وأود أن أعيد مجدداً، وللمرة المئة، القول إن هذا النداء خرافي، ولا وجود له في أي مصدر علمي، ولم يعثر على نصه الأصلي في أي مركز مرموق للتوثيق، ولا في محفوظات الدولة الفرنسية ووزاراتها المعنية، بل تبيّن، بعد البحث، أن هذا النداء اختراع صهيوني خالص، روّجه عدد من الكتّاب، أمثال المؤرخ اليهودي الفرنسي، بول جيفنسكي، الذي عثر في جريدة مونيتور يونيفرسال (22/5/1799) على خبر يشبه هذا النداء، وكذلك المؤرخ اليهودي النمساوي، فرانز كوبلر. ونشر ناحوم سوكولوف في سنة 1919 هذا النداء بصيغة مختلفة، وعلى غراره نشر الصهيوني، فيليب غوديلا، النداء في كتاب "نابليون في فلسطين" الصادر سنة 1925، والذي قدم له الصهيوني، يسرائيل زانغويل، وكتب الاستعماري لويد جورج ملحقاً له. وفوق ذلك، دحض كثيرون من دارسي تلك الحقبة هذا النداء، أمثال هنري لورنس الذي رأى أن النداء يزعم أنه صدر في مقر قيادة نابليون في القدس، غير أن نابليون لم يذهب قط إلى القدس، وأن أسماء الحاخامين الواردة في ذيل النداء، أمثال الحاخام هارون بن ليفي حاخام القدس، مفبركة كلها؛ ثم إن المحفوظات الفرنسية لا تحتوي إي إشارة إلى هذا النداء، وجميع مَن كانوا شهوداً على عصر نابليون، وكتبوا شهاداتهم، أو مذكراتهم، لم يذكروا ذلك النداء على الإطلاق. وقد آن الأوان كي نغربل هذه الروايات، ولا سيما الروايات الشائعة عن "بروتوكولات حكماء صهيون" و"تقرير السير هنري كامبل ـ بنرمان"، ولا نستند إليها في كتاباتنا إلا من باب الإشارة إلى التزوير واختراع الأضاليل. وللأسف، فإن الكتابات العربية التي تتناول التاريخ الصهيوني ما برحت تردد خرافاتٍ من هذا العيار. وهاكم رأياً إيضاحياً ومخالفاً في هذا الشأن:

تسترجع كتابات عربية كثيرة إعلان نابليون بونابرت الذي قيل إنه أصدره في سنة 1799، إثر فرض الحصار على عكا، والذي دعا فيه يهود آسيا وافريقيا إلى الانضواء تحت لوائه، من أجل إعادة تأسيس أورشليم القديمة. والحقيقة أن إعلان بونابرت هذا خرافي، غير موجود بتاتاً، إلا في بطون الكتب التي ما برح مؤلفوها ينقلون من بعضهم كيفما اتفق، فتتناسل الفكرة من واحد إلى آخر، وتروج بقوة الشيوع، لا بقوة الحقائق. والصحيح أن حكاية إعلان بونابرت قصة يهودية بامتياز، تعتمد اختراع "الحدث"، ثم تحميل التاريخ ما لا يحتمل، ثم إعطاء المسألة بعداً سياسياً راهناً. وخرافة إعلان بونابرت بدأت حينما عثر المؤرخ الفرنسي اليهودي، بول جيفنسكي، على خبر من خمسة أسطر فقط في صحيفة مونيتور يونيفرسال، الصادرة في 22/5/1799 يقول: "أصدر بونابرت بياناً دعا فيه جميع يهود آسيا وافريقيا إلى الانضمام إلى صفوفه، وتحت رايته، لاستعادة القدس القديمة. وقد أمدَّ بونابرت عدداً من اليهود بالسلاح، وهددت كتائبهم حلب وضواحي دمشق من أمصار الباب العالي".

هذا هو الخبر. فكيف استخلص "المؤرخون" منه أن بونابرت كان يريد إنشاء دولة يهودية في فلسطين؟ وعلاوة على ذلك، فإن مؤرخاً يهودياً نمساوياً يدعى فرانز كوبلر نشر رسالة منسوبة إلى بونابرت في مجلة نيو جيديا اليهودية الصادرة في لندن، في سبتمبر/ أيلول 1940 بالانكليزية. وادعى كوبلر أن النص الانكليزي هذا، أي "الوعد" المزعوم، مترجم عن نص ألماني سلّمه إياه صديقه المؤرخ الألماني فوغنر الذي زعم أنه ترجمه بنفسه عن الأصل الفرنسي، وأن الأصل الفرنسي للرسالة مفقود، لأن الجيش الألماني عثر عليه مع وثائق أخرى، كان يمتلكها فوغنر، فصادرها وأحرقها، ولم يبقَ لهذا الإعلان أي أثر البتة.
وبالتأكيد، إعلان بونابرت غير موجود في الوثائق الفرنسية، أو في أي مكتبة أو متحف. ولمزيد من التذكير، كان نابليون بونابرت معادياً لليهود، وهو الذي أصدر قرارات في 30/5/1806 نصّت، في بعض بنودها، على تمييز عنصري ضد اليهود.

على المنوال نفسه، ينسج كثيرون قصة تقرير هنري كامبل ـ بنرمان، رئيس الحكومة البريطانية الذي قيل إنه دعا إلى مؤتمر في سنة 1907، حضره ممثلون عن فرنسا وبلجيكا وهولندا والبرتغال وإيطاليا وإسبانيا، وخرج المؤتمرون بتقرير رُفع إلى وزارة الخارجية ووزارة المستعمرات، يوصي بضرورة فصل الجزء الأفريقي من المنطقة العربية عن الجزء الآسيوي بحاجز بشري غريب.

النص الأصلي لهذا التقرير، الرائج جداً في الكتابات العربية، غير موجود على الإطلاق، ولم يتمكن أي باحث عربي، أو أي مؤسسة علمية عربية، من العثور عليه. وقد صرف الدكتور أنيس صايغ أسابيع عدة في لندن، في أواخر الستينيات، وهو يبحث عن هذا النص في المتحف البريطاني، وفي مكتب الوثائق العامة، ولم يتوصل إلى أي شيء. ثم ذهب إلى كيمبردج، وعكف على التنقيب في أوراق هنري كامبل ـ بنرمان التي أودعها مكتبة "كلية المسيح"، فلم يعثر على أي إشارة. ثم عاد إلى جريدة التايمز لسنة 1907، فلم يعثر حتى على خبر عن هذا المؤتمر، أو ذلك التقرير. وتبيّن، لاحقاً، أن تقرير كامبل ـ بنرمان مجرد خبر شفوي مرسل، لا أكثر ولا أقل، والحكاية أن المحامي الفلسطيني، أنطون سليم كنعان، ألقى محاضرة في دمشق في 23/9/1957 دارت كلها على وثيقة كامبل ـ بنرمان. وادعى أنه أول مَن كشف الوثيقة، ونشر مقالاتٍ كثيرة عنها، ورفع مذكرة في شأنها إلى البابا في 26/9/1949، ومع ذلك، لم يذكر مصدراً واحداً لهذه الوثيقة، أو حتى النص الأصلي الكامل البتة. وعن المحامي كنعان ومقالاته، نقل الكَتَبة والصحافيون أخبار هذه الوثيقة ومضمونها، وراجت كثيراً حتى صارت "وثيقة" لا يرقى إليها شك. وتبيّن، في ما بعد، أن أصل الحكاية التالي: كان أنطون كنعان مسافراً إلى أوروبا في النصف الثاني من الأربعينيات، وكان إلى جانبه في الطائرة، مصادفة، رجل هندي (لا يعرف اسمه). ودار حديث بينهما على الحكم البريطاني في الهند وفلسطين. وهنا أخبر الراكب الهندي (المجهول الاسم) رفيقه الفلسطيني أن مؤتمراً كان دعا إليه هنري كامبل ـ بنرمان في سنة 1907، أصدر توصيات تنص كيت وكيت. والكلام كله كان شفهياً تماماً من غير أوراق أو مذكرات أو حتى قصاصات صحافية. وبنى أنطون كنعان من حديث الرجل الهندي حكاية مؤتمر كامبل ـ بنرمان ووثيقته المشهورة. فتخيّلوا!

... تصدى أستاذنا أنيس صايغ لمثل هذه الكتابات التي لا سند تاريخياً لها، وهو الذي كشف في 1971 مصدر "تقرير كامبل ـ بنرمان" الذي لا أصل له. ودحض بشارة خضر نداء نابليون (أنظر: بشارة خضر، أوروبا وفلسطين، بيروت مركز دراسات الوحدة العربية، 2003، ص 75-82). وللأسف، فإن هاتين "الوثيقتين" المزورتين، علاوة على "بروتوكولات حكماء صهيون"، ما زالت أقوى من العلم.