ذبّاحون ندابون قديسون

ذبّاحون ندابون قديسون

01 نوفمبر 2014
+ الخط -

الناس، على العموم، تعشق الأبطال والحزن والبكاء. وفي أحيان كثيرة، لا تتشكل جماعة من البشر على هيئة محددة، من دون بطل أو شهيد. ولولا الشحنة التراجيدية الهائلة في حكايات الأبطال الخارقين، وفي قصص موتهم، لما أمكن اجتماع الناس على قوام واحد، وعلى إيمان واحد. هكذا كانت الحال مع سيرة الإمام الحسين والشيعة، حتى أن فلاحي بوليفيا كانوا يتبركون بالمكان الذي اغتيل فيه غيفارا، الأمر الذي يشبه حكاية أنطون سعادة وانسحار أعضاء حزبه به. وفي العصور القديمة، مات أوزوريس في مصر مقطّعاً، وصلب كرشنا وبوذا في الهند، وكذلك بروميثيوس في القوقاز، وميثرا في فارس، وعلى هذه الوقائع وآلامها ظهرت فرق دينية خالصة وعبادات كثيرة.

غير أن الشخصية الأبعد أثراً في التاريخ الإنساني كله هي المسيح؛ فالمسيح هو "ذبيحة الله" و"حمل الله" بحسب إنجيل يوحنا، وهو "الخروف" الذي ورد في سفر الرؤيا، وهو الفادي الذي رفع خطايا العالم عن البشر. والواضح أن طقوس التضحية وطقوس البكاء متلازمة تماماً؛ ففي المسيحية، هناك أسبوع الآلام الذي يسبق الفصح. وفي الكنيسة مكان يدعى المذبح، والقداس يُسمى "الذبيحة الإلهية". ولدى الشيعة عشرة أيام من البكاء تسبق مصرع الحسين. وكان الحزن والبكاء وتخميش الوجه وضرب الرؤوس بالسواطير وجلد الظهور بالجنازير عناصر حسية لمحاكاة مأساة البطل المعذَّب، وهي تؤلف إحدى شعائر الخوف والتطهر من الإثم.

في المجتمعات القديمة، كان رئيس القبيلة هو الساحر والطبيب والكاهن معاً. وبالتدريج، راحت هذه الوظائف ينفصل بعضها عن بعض. وكانت وظيفة الكاهن إخافة الناس من الإثم. فإذا كان منشأ الدولة في البدايات هو الخوف من الحرب، حين كان الجميع يقاتل الجميع في معارك لا تنتهي، فإن منشأ الديانات هو الخوف من الظواهر الطبيعية الغامضة. واللافت أن اليونانيين القدماء لم يعرفوا الخطيئة، ومع ذلك، فطقوس التضحية موجودة لديهم. لكن، التضحية في الحضارة اليونانية القديمة لا تهدف إلى الخلاص من الخطيئة والإثم، بل لها دوافع دنيوية.

ومهما يكن الأمر، تحولت التضحية، أي القربان، من التضحية بالجسد البشري لدى الشعوب الرعوية القديمة إلى التضحية بجزء من الجسد لدى الشعوب الزراعية، ثم إلى التضحية بالحيوان بدلاً من الإنسان. وبدلاً من تقديم الجسد كله قرباناً للآلهة، صار تقديم جزء من الجسد كافياً، ولعل هذا الأمر منشأ الختان في مصر القديمة. وفي ما بعد صار تقديم بديل حيواني من الجسد كافياً أيضاً. وتعبر عن ذلك قصة النبي إبراهيم وابنه إسحق والخروف. وفي مسرحية أغاممنون لأسخيلوس، يعمد أغاممنون إلى التضحية بابنته أفيغينيا للإلهة أرتميس، غير أن أرتميس تشفق عليها، وترسل غزالة إلى الذبح بدلاً منها.

قبل أيام، ودّعنا عيد الأضحى، وها نحن نستقبل ذكرى مصرع الحسين، بينما الدماء والأجساد المقطعة تحوطنا من كل جانب، كأنها قرابين بشرية على طريق الخلاص. ومن المؤلم للعقل والنفس معاً أن أبو مصعب الزرقاوي كان يُحتفى به بصفته "أمير الذباحين" على غرار شعوب "الأنكا" التي كانت تنتشي بقرابين الدم، وبمشهد الشاب الذي انتُزع قلبه من صدره وهو يخفق، وها إن الأمر يتكرر اليوم، حين تنتشي جماهير عربية واسعة بمشاهد الذبح من الوريد إلى الوريد.

إن الثور حين يهجم على المصارع الإسباني يعتقد أنه سيصيب منه مقتلاً، لكنه لا يدري على الإطلاق أنه سيكون الذبيحة وقربان الاحتفال، تماماً مثل الجماعات الإرهابية التي تزرع التنانين اليوم، لكنها لا تعرف أنها لن تحصد إلا البراغيث غداً، ولا تدري أنها إلى الموت سائرة، بعد أن أماتت كل نضارة باقية في مجتمعاتنا.

دلالات