سيناريو انقلاب أبيض في الضفّة

سيناريو انقلاب أبيض في الضفّة

07 أكتوبر 2014

الأمن الفلسطيني يقمع تظاهرة لأنصار حماس في الخليل(22أغسطس/2014/الأناضول)

+ الخط -
صرّح عضو المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية، حماس، موسى أبو مرزوق، في 12 سبتمبر/ أيلول الماضي، أن الحركة قد تضطر للتفاوض المباشر مع إسرائيل، وأنه لا غبار، من الناحية الشرعية، على ذلك، فـ"كما نفاوضه (العدو) بالسلاح، نفاوضه بالكلام"، ورأى ذلك "مطلباً شعبياً" لأهالي غزة. وأخيراً، صرّح قيادي آخر في الحركة، لـ"العربي الجديد"، عن عزم "حماس" على إجراء مراجعات سياسية ودينية، وأنها تبحث الدخول في مفاوضات مباشرة مع العدو الصهيوني، باعتباره "نوعاً من المقاومة".

لم تمضِ ساعات على ذلك التصريح، حتى أعلن القيادي، يحيى موسى، أن "الحركة لا تنظر إلى طريق المفاوضات مع إسرائيل مخرجاً لحل الصراع واستعادة الحقوق". وليست هي المرة الأولى التي تصدر فيها تصريحات متناقضة عن حركة "حماس" في هذا الشأن، الأمر الذي قد يعكس خلافاً داخل الحركة بين مَن يوصفون معتدلين والموصوفين متشدّدين. وفي كل الأحوال، ما يُكرَّسُ على أنه من المحظورات، يحتاج، كي يُنتهَك، إلى الممهّدات والمقدّمات.

وربما تكون البدايات الأولى والأكثر وضوحاً لهذه التحولات السياسية قد صدرت عن رئيس المكتب السياسي للحركة، خالد مشعل، في العام 2009، حين صرّح أن ميثاق "حماس"، الذي يدعو إلى زوال إسرائيل عبر الجهاد، "يعود تاريخه إلى عشرين عاماً، وأن التجارب هي التي تحدّد سياسة الحركة".

كانت التجربة الأخيرة لحركة حماس، ومعها قطاع غزة، مختلفة. فالحرب الإسرائيلية، هذه المرة، كانت أطول أمداً وأشدّ هولاً بكلفة بشرية واقتصادية واجتماعية مرتفعة، وجاءت في ظل مناخ دولي وإقليمي لم يكن في صالح الشعب الفلسطيني، ولا في صالح حركة حماس. فالقضية الفلسطينية ملفّ مؤجّل دولياً. وخاضت حماس تلك الحرب في ظل عزلة دولية غير مسبوقة منذ 1987: حصار إسرائيلي خانق مستمر منذ سنوات، مع تضييق مصري على معبر رفح والأنفاق، الرحيل عن دمشق وخسارة الحليف الإيراني الأكثر سخاءً ودعماً بالسلاح والمال (نحو 15 مليون جنيه استرليني سنويّاً)، وفوق ذلك كله، فوضى غير مسبوقة، تعمّ المنطقة، ورياح عنف طائفي تعصف بها، وإرهاب يهدّد تماسك دولها، بعدما أجهضت محاور الصراع، كلّ على طريقته، مخرجات ما بدا أنه "ربيع عربي".

وما أن وجدت "حماس" مخرجاً لعزلتها بالارتماء في أحضان أمها الأيديولوجية، حركة "الإخوان المسلمين" في مصر، حتى أطاح العسكر، في يوليو/ تموز 2013، حكم الرئيس محمد مرسي، ليصدر حكم قضائي، في مارس/ آذار الماضي، يحظر نشاط الحركة، ويتحفّظ على مقراتها. أما الدعم القطري والتركي، فلم يرقَ إلى مستوى طموحات حماس وحاجاتها اللوجستية والعسكرية والمالية، بحكم ضوابط عديدة رسمت سياستي البلدين.

لا شك أن ذلك كان كفيلاً بالضغط على حماس، ودفعها إلى تراجعات سياسية، بحيث تبدو معها تلك المراجعات المعلن عنها مجرد تبرير شرعي وفقهي لهذه التراجعات. وقد حرص الخطاب الإعلامي للحركة على إظهارها متحدثة بلسان الشعب الفلسطيني ومستجيبة لمطالبه، لكن "الضغط الشعبي" المذكور في تصريحات قادة "حماس" يبدو، هذه المرة، فريداً من نوعه، إذ ما أن يدفع باتجاه (الصمود في غزة) حتى يدفع، بين ليلةٍ وضحاها، بالاتجاه المعاكس (التفاوض المباشر مع العدو). أما ما كان من المحرّمات لدى "حماس"، فبات من الممكن، اليوم، التراجع عنه، أيضاً، طالما تبيح الضرورات المحظورات. مع أن الحركة، ربما، سبقت غيرها إلى انتهاك هذا المحرّم، فمحمود الزهار كان قد صرح أنه، في العام 1988، التقى بإسحق رابين ونائبه شيمون بيريز أكثر من مرة، لكن "حماس" تمضي، اليوم، ولسان حالها يقول: ما هو حرام عليكم، حلال لنا، والمفاوضات المباشرة مع العدو باتت ممكنة وشرعية، حتى قبل أن تنتهي المراجعات نفسها.

يبقى السؤال المطروح الآن حول الملفات التي ستُطرح على طاولة هذا التفاوض، هل ستفاوض حماس على قطاع غزة أم نيابة عن الفلسطينيين؟

في الحالة الأولى، ستفاوض حماس على شروطٍ للهدنة ورفع الحصار وفتح المعابر، وعلى عمق الصيد البحري وإعادة فتح الميناء وإعمار المطار وغيرها. وستعمل على أن تضمن هدنة طويلة الأمد مع الجانب الإسرائيلي، كانت قد عرضتها أكثر من مرة. وبعيداً عن لاواقعية هذا الطرح لإسرائيل، التي لن ترضى بإتاحة وقت كافٍ كي يستطيل "عشب" حماس أكثر من اللازم، فذلك يعني أن حماس تكرّس الانقسام الفلسطيني لصالح توطيد سلطتها في غزة، وستبدو غير معنية بالضفة (ما لا يتناسب مع طموحاتها السياسية والأيديولوجية)، وأنها تدير ظهرها إلى نصف الشعب الفلسطيني في الداخل، وتتخلى عن فلسطينيي الشتات، حين تتحوّل من المقاومة إلى سلطةٍ لإدارة القطاع، لتشارك حركة فتح في أزمتها، المتمثّلة في التناقض بين كونها حركة تحرير وطني وكونها حزباً للسلطة.

أما الحالة الثانية، فتعني أن حماس، بعدما احتكرت قرار الحرب، تريد، الآن، أن تحتكر قرار السلم، لتنقلب على منظمة التحرير الفلسطينية، وعلى تفاهماتها معها، بدءاً بـ"وثيقة الوفاق الوطني" التي استندت إلى "وثيقة الأسرى" وحتى اليوم، والتي نص معظمها على الإقرار بمبدأ التفاوض باعتباره أحد أشكال النضال، على أن تتولاه منظمة التحرير. وفي حال قبول إسرائيل، ومن خلفها الإدارة الأميركية، التفاوض مباشرة مع حماس، لغاية في نفس يعقوب، فمعنى ذلك إطلاق رصاصة الرحمة على السلطة الوطنية والصفة التمثيلية لمنظمة التحرير، وأن حماس قد توغّلت في صراعها على السلطة والتمثيل الفلسطيني أكثر ممّا قد تحتمله المنظومة الفلسطينية نفسها، تلك المنظومة الهشّة التي، وإنْ قامت على الصراع بدل المنافسة السياسية المضبوطة ديمقراطياً ومؤسساتياً، إلا أنها وفّرت في الماضي حداً أدنى من التوافق، يضمن لها استمراريتها. إن قدرة حماس في وضع يدها على ملف المفاوضات المباشرة مع إسرائيل هو، بحد ذاته، انقلاب "حمساوي" أبيض في الضفة.

ويعني انهيار المنظومة الفلسطينية، انهيار الحلقة الأضعف فيها، وهو السلطة الوطنية الفلسطينية، ولن توجد لدى حماس أي ضمانات لإحكام قبضتها على الضفة، لا سيما في ظل أزمتها المالية وعزلتها الدولية، التي ستسعى إسرائيل، في ظل الحرب الدولية على الإرهاب، والتي قد يطول أمدها، للإبقاء عليها، ما يعني فلتاناً أمنياً وترهّلاً سياسياً وإدارياً، قد يسمح لموجة التطرف التي تعاني منها المنطقة أن تنال من الضفة الغربية. عندها ستنكفئ حماس إلى داخل حدود القطاع، بعدما تتوفّر لدى إسرائيل الذريعة لمعاودة احتلال الضفة الغربية، وهي تقول للعالم: نفّذنا التزاماتنا، وأنهينا احتلالنا الضفة والقطاع، فانظروا ماذا حصل!

المصيدة التي نصبتها الإدارة الأميركية وإسرائيل للفلسطينيين في 2007، وأدت الى انقلاب حماس في غزة، قد تتكرّر مجدداً.

حسام أبو حامد
حسام أبو حامد
كاتب وصحافي فلسطيني. من فريق موقع العربي الجديد قسم السياسة.