أشباح الإبادة أو الترحيل

أشباح الإبادة أو الترحيل

05 أكتوبر 2014

عراقيون مسيحيون نزحوا من الموصل إلى أربيل (أغسطس/2014/الأناضول)

+ الخط -
في معمعان هذا الهول المروِّع الذي يلف العالم العربي بأسره، ومن بين نيران الحرائق التي تأكل المدائن العربية، ولا سيما حلب ودمشق والموصل وصنعاء، ظهرت في سماء بلادنا أشباح مريبة، ومحيرة وراعبة، وهي تحوم، الآن، فوقنا وتثير الرعب فينا، كأنها أعاصير هوج، تكاد تبتلع بقايا التحضر في المشرق العربي الذي ظهر قبل نحو سبعة آلاف سنة... إنها باختصار "ظلال الترانسفير".

بين 2003 و2013، غادر العراق نحو 800 ألف مسيحي عراقي، في عملية ينطبق عليها القول إنها "ترانسفير متدرج"، ولم يقف أحد في وجه هذه العملية. وعندما احتلت جحافل "داعش" الموصل في 9/6/2014، طردت منها على الفور مائة ألف مسيحي، ثم فرَّ نحو مائة ألف آخرين من شيخان والحمدانية وقراقوش إلى شمال العراق، في ما يشبه الإبادة الجماعية الباكية، ولم يتحرك أحد لنجدة هؤلاء.

وعندما سيطرت "داعش" على سنجار في 3/8/2014، فور انسحاب قوات "البيشمركة" منها بطريقة مريبة، بادرت إلى قتل ما لا يقل عن 500 إيزيدي، وطردت نحو 170 ألفاً، ومات في العراء، جوعاً وعطشاً وإنهاكاً، أعداد غير معروفة بدقة، ولم ينتخِ أحد لحمايتهم. ودمرت الجماعات التكفيرية جميع المعالم الروحية الأرمينية في حلب وكسب ودير الزور، الأمر الذي أدى إلى هجرة نصف أرمن سورية إلى أرمينيا ولبنان وأوروبا وأميركا. وفور وصول أنصار الإمام الخميني إلى السلطة في إيران، غداة إزاحة كريم سنجابي وابراهيم يزدي وأبو الحسن بني صدر وحزب توده (الشيوعي) وجبهة تحرير إيران وفدائيين خلق وأنصار شريعتمداري والطالقاني، شُنّت حملة للانتقام من البهائيين الذين اندثروا تقريباً في دولة إيران الإسلامية.

اقترن تفكك الامبراطوريات، دائماً، بالمجازر ضد الأقليات. هذا ما حدث حين انهارت الدولة العثمانية قبل مائة سنة، فدفع الأشوريون والسريان والأرمن واليونان الثمن. وها هي الدول الوطنية العربية تتفكك، بتسارع عجيب، وتتفسخ مجتمعاتها بطريقة مهينة، وتدفع الأقليات ثمن فشل هذه الدول، وانحلال روابطها الوطنية، وفشل مشروع الحداثة المجهض، وانحطاط الطبقة الوسطى، وكلبية الفئات الحاكمة المتسربلة بالطوائف والمذاهب.

المعروض على هذه الأقليات، اليوم، خيار من اثنين: إما الترحيل أو الإبادة، ومع ذلك، لم يتحرك أحد من دعاة الإنسانية في الغرب والشرق، لإعادة هؤلاء الهائمين على وجوههم من العراقيين والسوريين، مسيحيين وإيزيديين، إلى بلادهم وديارهم. وما يجري، اليوم، هو مجرد ترتيبات لترحيلهم إلى "ديار الله الواسعة"، فالترانسفير هو الخلاصة الحزينة للحروب الأهلية المتمادية.

ما دام لا أحد منع الترانسفير من سورية والعراق، وما دام الترانسفير لا يثير أي استهجان جدي في عالم اليوم، ولن تغامر أي دولة في التصدّي له بفاعلية، أو حتى إعاقته، فما الذي يمنع إسرائيل غداً، وفي أحوال مواتية، من طرد مليون وثلاثمئة ألف فلسطيني من الجليل والمثلث وغيرهما، أو حتى نصفهم أو ربعهم؟ هؤلاء سيُضافون إلى خمسة ملايين لاجئ، لم يسأل أحد عنهم، أو عن قضيتهم طوال ست وستين سنة. المهم أن يتعزّز الأمن القومي الإسرائيلي، وكلما زاد التشقق العربي، ازداد هذا الأمن رسوخاً، ولا ضير لدى العرب في ذلك، لأن اسرائيل ما عادت العدو، وهي ليست دولة احتلال، أو لب المشكلة في الشرق الأوسط.

ليست هذه المسألة مجرد تأمل ذهني؛ إنها خطر حقيقي وخطط تدور في رؤوس صانعي مستقبل إسرائيل. وكنا، في الماضي، نقول إن الإبادة غير ممكنة في فلسطين، وإن الترحيل (الترانسفير) مرة ثانية شبه مستحيل. لكن، المستحيلات كلها أصبحت ممكنة اليوم في بلادٍ تتحول فيها جميع الأمور خلافاً لمسار التحضر ولتاريخ الحضارات.