تعقيباً على أسامة أبو ارشيد بشأن "المراجعات" الإخوانية

تعقيباً على أسامة أبو ارشيد بشأن "المراجعات" الإخوانية

29 أكتوبر 2014

تظاهرة لجماعة الإخوان المسلمين في الأردن (9 فبراير/2004/أ.ف.ب)

+ الخط -

منذ أواسط السبعينيات، توالت سلسلة كتيبات عرفت في أدبيات الحركات الإسلاموية، على تلوناتها، بـالمراجعات. "دعاة لا قضاة"، سلسلة "تصحيح المفاهيم"، "وثيقة ترشيد العمل الجهادي"، وربما غيرها كانت قواسمها المشتركة: التخلي عن العنف وعقيدة التكفير، قبول التعددية الحزبية وخوض الانتخابات، الاعتراف بالنظم السياسية القائمة، وتأجيل المعركة مع العدو الداخلي لصالح المعركة مع العدو الخارجي.

مقالان متكاملان للكاتب والباحث الفلسطيني، أسامة أبو ارشيد، في (العربي الجديد، 16و24 أكتوبر/تشرين أول 2014) يتناول فيهما قضية المراجعات لدى "الإخوان المسلمين". عرض الأول معالم ما يصفه بالتهديد الوجودي لـ"الإخوان" والحاجة إلى مراجعات "حقيقية وعميقة، فكرية وتنظيمية ومسلكية"، ويحذر من ثورة أو تمرد داخلي قد يكون أكثر خطورة من التحديات الخارجية التي تواجه الحركة. أما الثاني، فيشرح المعوقات التي تحول دون تلك المراجعات والآليات المطلوبة لإجرائها.

نعم، لم تحقق المراجعات السابقة تصحيحاً في مسار حركة "الإخوان"، ولا تمكيناً لها. إذ لم تكن تلك المراجعات سوى نوع من التقيّة السياسية، خصوصاً أنها تمت تحت وطأة الصدام العسكري بالنظام الحاكم وضغط قبضتة الأمنية، وقد أُعلن عن انطلاق عديد منها في المعتقلات وأروقة محاكم أمن الدولة، وفي أحسن الأحوال كانت مجرد بحث عن تبريرات فقهية شرعية لتراجعات سياسية. ولكن، ما هي ضمانات أن تكون المراجعات الجديدة "حقيقية"، كما يريدها أبو ارشيد، لاسيما وأنها، أيضاً، تتم في وقت "محنة أعقد وأخطر"، حسب تعبيره؟

تبدو أزمة "الإخوان" أزمة في المنهج بالدرجة الأولى. إذ تقوم المنهجية "الإخوانية"، من حيث هي فقهية، على رد الفروع إلى الأصول، وتقتضي المراجعات تجاوز النتائج التي تم التوصل إليها عبر تلك المنهجية إلى العودة مجدداً إلى الأصل، أي النص الديني، لتبدأ دورة جديدة من استنطاق ذاك النص تشريعات جديدة لمجابهة مستجدات الواقع (الفروع). وفي الفضاء السياسي، خصوصاً، ستؤدي آلية الفتوى هذه إلى استنطاق النص تشريعات متناقضة مع كل مراجعة جديدة، وأحياناً تحميله ما لا يحتمل. لذا، لن تخلو تلك الآلية من التعسف المنهجي والتذبذب الفقهي والتشريعي مما يمعن في تأزيم واقع حركة "الإخوان"، ويؤدي إلى مزيد من التذبذب في مواقفها السياسية.

تبرز الأزمة في أحد وجوهها، في عدم حسم "الإخوان" موقفهم من مسألة الديمقراطية، مع مفارقة قبول نتائجها، طالما صبت في صالح التمكين للحركة. وإذا كان "الإخوان"، أنفسهم وقبل غيرهم، يصرون "على أن مشاريعهم هي مشاريع أوطان وأمة"، وأنه لا يُقبل منهم "أن يتفردوا في تحديد مصائر الأوطان والأمة من دون تطعيم قراراتهم وعملهم باستشارات ونصائح وكفاءاتٍ، يهمها، أيضاً، مصالح الأوطان والأمة"، فكنا ننتظر من الكاتب، وهو يعالج قضية التفرد في القرار داخل الحركة، ومركزية النقد والمراجعة، أن يطرح مسألة الديمقراطية ومشتقاتها أدوات منهجية مقترحة على الأقل، للبدء في مراجعات يريدها "حقيقية". لكن "الإخوان" ومناصريهم ما انفكوا يلوذون بالشورى بديلاً شرعياً من الديمقراطية بوصفها بضاعة غربية، الأمر الذي جعلها تُغّيب، كموضوعة للمراجعات وكإحدى آليات إجرائها أيضاً. أما ما يخص الوطني والأممي (مع تناقضهما)، واختزال الأول في الموقف من العدوين، الداخلي والثاني، في الموقف من العدو الخارجي، فهي مسألة أخرى لا يسعنا هنا التفصيل فيها.

تاريخياً، لم تكن محاولات "الإخوان"، عبر مراجعاتهم، التكيف مع حداثة سياسية تعني، بأي حال، قبولاً بالديمقراطية، وهم، اليوم، لا يتمسكون بها لذاتها، بل من حيث أصبحت وسيلتهم في الوصول إلى الحكم، إذ ليس لديهم القناعة بأنها منهج في إدارة المجتمع والسياسة والاقتصاد، ولا في إدارة بناهم التنظيمية، وهم حين يطالبون، اليوم، بعودة "الشرعية"، لا يبدو أنهم يعبأون بعودة الديمقراطية.

وعلى الرغم من انخراط كوادر من "الإخوان" في الحراك الجماهيري الذي عرف لاحقاً بثورة 25 يناير، فإن الموقف الرسمي للجماعة لم يكن موقفاً مبدئيّاً حاسماً، بل براغماتيّاً إلى حد الانتهازية السياسية، حين لجأ إلى الغموض والإرجاء، حتى يتبين الخيط الأبيض من الأسود. وما أن وضح النهار حتى سارع "الإخوان" إلى تلقف نتائج الثورة، مستندين إلى رصيدهم الجماهيري الذي راكموه، بعد عقود من العمل الدعوي والخيري الذي أتيح لهم، أولاً، بفضل تواطئهم مع النظم الحاكمة في أكثر من مكان ومرحلة، حين ارتضوا لأنفسهم، كما أراد هذا النظام نفسه، دور البديل الاجتماعي الأيديولوجي لقوى اليسار وتلك الموصوفة بالتقدمية.

لاحقاً، فشل الإخوان المسلمون في إدارة المجتمع المصري مؤسساتيّاً، واستمرت الفضائل الشخصية في القيادة التي حالت لدى الحركات الإسلاموية دون بروز تفكير سياسي بالمؤسسة، في منح "الشرعية" للرئيس المنتخب، في ظل غياب حد أدنى من الإنجاز المطلوب جماهيريّاً. لم يلتفت نظام محمد مرسي إلى ترسيخ النظام الديمقراطي، بل استمرت عقيدة نفي الآخر من خلال أخونة الدولة والمجتمع، لتلتقي لاحقاً بغياب وعي شعبي كاف بالديمقراطية، لصالح الإيمان بمواهب الحاكم الشخصية. وفي ظل صراع الكاريزما، انتصرت كاريزما عبد الفتاح السيسي وخسرت الديمقراطية.

ولا ندري كيف يستقيم إدانة انقلاب عسكري في مكان (مصر) مع التمسك بتأييد آخر في غزة، باعتباره خطوة "قد تدفع الإخوان المسلمين إلى التفكير بطرق "خلاقة" لمواجهة القمع والكبت الممارس عليهم، وعلى شعوبهم من الأنظمة"؟ هل كانت إطاحة حكم الإخوان في مصر، تحدث فعلاً لو كانوا ومناصروهم ديمقراطيين أكثر من خصومهم، أم أن نظرية المؤامرة التي يلجأون إليها، اليوم، ستنسف هذا السؤال من أساسه؟

نتفق مع أسامة أبو ارشيد أن "واحداً من أمراض التنظيمات الأيديولوجية، أنها، من شدة استغراق نفسها وجهودها في العمل التنظيمي الداخلي، تنسى أنها جزء من مجتمع أكبر، ويصبح التنظيم بالنسبة لها منتهى الغاية"، لكن زوال تلك "القداسة" و"الهالة" التي "أحيطت بها تلك البنى التنظيمية وهياكلها وتمنع تغيرها" هو اليوم مرهون بتخلي "الإخوان" عن أسس عديدة قامت عليها أيديولوجيتهم حتى الآن، لاسيما المتعلقة بمفهومهم عن "الجماعة"، وتحول الحركة إلى حزب سياسي، يمارس النقد والنقد الذاتي، ويتعاطى الشفافية انطلاقاً من حالة تأطير ديمقراطي، لكن ذلك تماما هو ما حذر منه أيمن الظواهري يوماً، في كتابه "فرسان تحت راية النبي"، حين رأى في مراجعات جماعة الإخوان المسلمين "انتحاراً عقائديّاً وسياسيّاً" في "الوقت الذي تنمو فيه تنظيميّاً".

الخشية من تمرد أو ثورة داخلية أمرٌ مشروع من الناحية المنهجية، لكن ذلك قد تم فعلاً في المراحل التاريخية السابقة، وما زال مستمراً، ويتمثل في انشقاق مجموعات وأفراد لتشكيل تنظيمات أشد تطرفاً مارست ما يكفي من العنف. واستمرار الأزمة المنهجية والضبابية الفكرية في غياب الديمقراطية، آلية تمهد لانطلاق المراجعات وموضوعة أساسية لها، سيجعل من مراجعات "الإخوان" بحاجة دائماً إلى المراجعة، وكأننا إزاء لعبة المرايا، حيث الانعكاسات لا نهائية للصور، ما يمنعنا من تمييز الحقيقية منها، وتجعلنا نخشى على مآلات حركة "الإخوان"، ومن انهيار "وسطيتها" في آن واحد، لاسيما في ظل موجة التطرف التي تجتاح المنطقة، ما يشكل تهديداً وجوديّاً للمجتمع نفسه.

حسام أبو حامد
حسام أبو حامد
كاتب وصحافي فلسطيني. من فريق موقع العربي الجديد قسم السياسة.