الربيع العربي والدولة والمجتمع في الشرق الأوسط

الربيع العربي والدولة والمجتمع في الشرق الأوسط

28 أكتوبر 2014

التحديات الحالية تتمثل في بلورة نظرية للانتقال السياسي (6أبريل/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

تعبر التطورات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط عن مرحلة انتقالية عميقة في النظم السياسية، مما يثير جدلاً ونقاشاً كثيرين حول المسارات المحتملة للسياسات في الشرق الأوسط. فالقضية المركزية في المرحلة المقبلة سوف تدور حول مسائل كثيرة متعلقة بتعريف الدولة الوطنية وعلاقتها بالمجتمع، مما يدفع باتجاه إعادة تشكيل النظم السياسية في بلدان الشرق الأوسط.

وتكمن المقدمات التي تطرحها موجة "الربيع العربي" في وجود فرص للتحول السياسي، لكنها تواجه معوقات بنيوية؛ ينتمي كثير منها إلى بنية السلطة، وتكلّس بنية الحركات الاجتماعية والأحزاب السياسية. وكشفت السنوات الثلاث الماضية عن غياب القدرة على الابتكار في صياغة مسار التحول السياسي في غالبية بلدان الربيع العربي، وبشكلٍ أتاح الفرصة للنخب السلطوية للتمسك بمواقعها، وإرباك السياسات الانتقالية.

وظهرت في الأعوام الماضية، اجتهادات في رسم ملامح المستقبل السياسي في بلدان الربيع العربي، سواء بالمشاورات السلمية أو العنفية، مما يشير إلى تنوع الخبرات والتجارب السياسية في الشرق الأوسط. حيث ظهرت أنماط عديدة في التغيير السياسي. فعلى الرغم من المضي في المسار الدستوري في مصر، وتشكيل المؤسسات بالانتخابات المباشرة، ساهم الدور السياسي للمؤسسة العسكرية في اهتزاز سلطات الدولة، وإيجاد مزيد من القلق والنزاع حول شرعية سلطات الدولة والمؤسسات القائمة. فانقطاع المسار الديمقراطي بعد بيان "3 يوليو 2013" مهد لبدء مرحلة أخرى من النقاش بشأن خيارات بناء الدولة، تغلب عليها ميول السلطوية، ولم يعط إجابات واضحة بشأن السياسات العامة، لكنها، على أي حال، تتحيز للدولة ضد المجتمع المدني.

وفي تجربة تونس، لم تشكل الانتخابات العامل الحاسم في تقرير المسار الانتقالي. فعلى الرغم من انتخاب المجلس التأسيسي سلطة سيادية وتشريعية، تمت تسوية الخلاف السياسي عبر لجنة الحوار الوطني، وتحت مظلة الاتحاد العام للشغل، ويتم التوصل إلى تسوية بإعادة تشكيل الحكومة من خارج الأحزاب التي تشكل غالبية المجلس التأسيسي، وتكون مهمتها إدارة الانتخابات. وإلى جانب هذه السياسات، تجنبت التجربة التونسية الأخذ بمبدأ العزل السياسي، وتركت الحرية للناخبين لتشكيل مؤسسات الدولة، وهو ما يتيح الفرصة لأعضاء "نداء تونس" للولوج إلى مؤسسات الدولة مرة أخرى، على الرغم من ارتباطاتهم مع "التجمع الدستوري" وميراثه السياسي داخل البيروقراطية.

ولعل التجربة الليبية تقدم إطاراً مختلفاً للانتقال السياسي، فقد بدأت الفترة الانتقالية بصياغات دستورية مهتزة، وغير قابلة للاستمرار، وظلت عرضة للتعديل. وهذا ما يعكس شدة الصراع السياسي بين قوى التغيير السياسي وقوى نظام معمر القذافي. وفي ظل هشاشة مؤسسات الدولة، تحول الصراع السلمي إلى صراع مسلح في كل ليبيا، ليضع البلاد أمام خيارين: الانطلاق في استكمال الثورة أو عودة النظام السابق. وهنا، صارت الخيارات على مفترق طرق.

وإذا ما انتقلنا إلى المشرق العربي، يتضح أن مسار التغيير، أو الانتقال في سورية والعراق، ظل يجري في سياقين: الطابع المسلح لإدارة الأزمة السياسية وشدة تأثير العوامل الخارجية. ومع استمرار الصراع بين بقايا الدولة والحركات الثورية، صار صعباً توقف الصراع من دون تحقيق أهداف ملموسة. حيث تكشف نتائج المفاوضات التي جرت بشأن أزمات العراق وسورية عن اضمحلال الأفق السياسي لكل أطراف الأزمة، مما يزيد من فرص العوامل الخارجية في تسيير الصراع السياسي.

وهنا، تأتي أهمية "التحالف الدولي" ضد حركة "الدولة الإسلامية لتحرير العراق والشام"، من وجهة أنه يمهد لإعادة تشكيل الإطار السياسي لكل من البلدين، ليس فقط ما يتعلق بالجوانب الدستورية، ولكن تداعيات الصراع المسلح والتدخل الخارجي سوف تفرض انفتاح احتمالات التحول السياسي في بلدان المشرق العربي في السنوات المقبلة.

خصائص الانتقال السياسي

وتكشف خصائص تجارب الانتقال السياسي عن غياب تصور حاسم للخروج من حالة الاهتزاز الفكري والسياسي التي تشهدها بلدان كثيرة. فالملاحظة الأساسية تتمثل في غياب مشروع سياسي للمرحلة الجديدة، مما ساهم في العودة السريعة لأنصار النظام السابق. فالوثائق والدساتير التي صدرت تعكس الحلقة المفرغة للنخبة السياسية، وصعوبة تخلصها من الميراث السلبي لحقبة الاستبداد. فالبرامج السياسية لأحزاب الحرية والعدالة/ جماعة الإخوان المسلمين (مصر) والأحزاب الليبرالية، تتسم بندرة الاجتهاد في تفعيل مسار الانتقال السياسي، وارتكزت على مقولات نمطية. وتنطبق هذه الخصائص على وثائق كثيرة صدرت في ليبيا واليمن وسورية وتونس.

ولذلك، لم يحل إجراء الانتخابات، أو صدور دستور جديد في بلدان عديدة، دون سقوط النظم الجديدة، أو تعثرها. ولا يرجع هذا الجانب فقط إلى عوامل الاختلاف بين النخب السياسية؛ الجديدة والقديمة، لكنه يرتبط، أساساً، بكفاءة الأفكار والمشروعات المطروحة للتصدي لوضع إطار يعبر عن تطور الدولة والمجتمع. وهناك اعتقاد بأن غياب مشروعات للتغيير السياسي يشكل جوهر الأزمة في المرحلة الراهنة، لكنه لا يعد العامل الوحيد. فبينما خلت الحركات الاجتماعية التقليدية من النزعات التحديثية، كانت التكوينات الحديثة بعد اندلاع ثورات الربيع العربي أكثر هشاشة. وعلى الرغم من دخولها مرحلة جديدة، شهدت حركة الإخوان المسلمين عملية تحديث بطيئة، ولا تتناسب مع التغيرات السريعة، بشكل أعاق تكوين حركة قيادية تستطيع إدارة الحراك السياسي.

وإذا كانت صياغة الدستور في تونس أفضل حالًا، فقد لازمتها أزمة سياسية، كانت نتيجتها وجود صيغة تجمع النخب السياسية بكل مكوناتها، وهذا ما يختلف عن تجربة بناء الدستور وإطاحته في مصر، وتعثر الوصول إليه في ليبيا. وهنا يمكن تناول هشاشة الإطار الدستوري، تعبيراً عن أزمة التكامل الوطني لمكونات الدولة.

الخبرات التاريخية

ولعل المشهد الحالي يتماثل مع مناقشات سادت المناخ الثقافي في القرن التاسع عشر والمراحل اللاحقة له، والتي تصدت لتعريف الدولة الوطنية في المنطقة العربية، فيما كان الاهتمام بتشكيل المجتمع لا يشغل أولوية الاهتمام الفكري والسياسي، مما أتاح فرصة لحدوث بلورة لكيان الدولة، أثناء الحرب العالمية الأولى، حيث تشكلت بذور الدول القومية، وتكرست بنيتها مع موجات التحرر من الاستعمار في منتصف القرن العشرين.

وخلال تلك الفترات، ظلت فكرة السيادة الوطنية تشكل أساس فكرة الدولة المشرقية. ولم تقتصر السيادة الوطنية في مواجهة التدخل الخارجي، ولكن السلطة احتجت بها في مواجهة المواطن، واحتفظت بكل السلطات بدعوى حماية الأمن القومي، وزادت من قمع المواطنين حماية للأمن القومي، بحيث تراكمت ثقافة سياسية، تتبنى إدماج الدولة في السلطة، وصارا يستخدمان للدلالة على معنى واحد.

ولكنه، منذ نهايات القرن الماضي، بدا اتجاه لإعادة هيكلة العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني والقطاع الخاص. وكانت ذروة هذه المحاولات ماثلة في الانتفاضات، أو الثورات، في العالم العربي، حيث طرحت الإشكالات المرتبطة بإعادة تكييف العلاقة بين الدولة والمجتمع على أساس الديمقراطية والليبرالية، أو الإسلامية المعتدلة.

إطار المستقبل

لعل ما يفرض النقاش حول أطر التفاعلات المتوقعة ظهور مقولات تتبنى انتهاء الإطار الذي وضعته الحرب العالمية الأولى لمنطقة الشرق الأوسط، حيث تميل هذه المقولات إلى أن الاهتزازات الداخلية في هذه البلدان سوف تترتب عليه إعادة هيكلة العلاقات الداخلية والسياسة الخارجية، خصوصاً ما يتعلق بالتوجهات السياسية، وأولويات العلاقة مع البلدان الغربية، أو الآسيوية.

وعلى الرغم من تباطؤ عمليات التحول نحو الديمقراطية، واتساع الصراع بين الدولة والجماهير، فإن خبرات السنوات الثلاث الماضية تشير إلى ارتفاع تنافسية الجماهير في طرح مسار سياسي، يقارب ما تطرحه الدولة التقليدية من سياسات. ويعد توسع بلدان عديدة في تشريعات مكافحة "الإرهاب" محاولة لوقف تيار الانتقال السياسي نحو الديمقراطية. لكن الميزة النسبية للمجتمع يمكن أن تدفع باتجاه إعادة هيكلة العلاقات السياسية الداخلية في كل دولة. وهنا يمكن النظر إلى خبرات السنوات الثلاث الماضية مؤشرات ومختبرات على بلورة سياسات جديدة للمراحل المقبلة.

وهنا، يمكن القول إن الخروج من حالة الترنح التي تمر بها مجتمعات الشرق الأوسط يتطلب معالجة النقص الفكري والسياسي لعملية التحول نحو الديمقراطية. فالتحديات الحالية تتمثل في بلورة نظرية للانتقال السياسي، تختلف، في فلسفتها وآلياتها عن المقترحات التي ترسخ للبنى التقليدية القديمة، مما يتطلب النظر في الممارسات السابقة بالتقييم واكتشاف التشتت والتشوهات التي شابتها.

ولكنه، على أية حال، يساعد تناول التطورات في هذه البلدان في رسم الاحتمالات الممكنة للصراعات القائمة، بما يساعد على استشراف السياسات الملائمة للتأثير في التطورات الراهنة، أو الاستعداد للتعامل مع نتائجها في المستقبل.

وهذا ما يتطلب العمل على عدة محاور؛ في مقدمتها إنضاج النموذج المعرفي للعلاقة بين السلطة والمجتمع، وكيفية الاستفادة من المدارس الفكرية، في طرح أفكار وصياغات معرفية للأدوار المختلفة لمكونات الدولة، خصوصاً ما يتعلق بوضع الأحزاب السياسية والتيارات الدينية والمجتمع المدني، وصولاً إلى الاستراتيجيات المتبعة في بناء السياسات العامة والسياسة الخارجية وتطويرها.

فبلورة النموذج المعرفي تعد خطوة مهمة لوضع ملامح التغيير السياسي. لكن، من المهم التوصل إلى تصورات عملية لتحويل السياسات إلى برامج عمل، من شأنها تشكيل بيئة سياسية حاضنة للتغيير، أو تساهم في طرح حل أساسي للخروج من الأزمات السياسية الراهنة. فالكثير من برامج الحركات السياسية، والأحزاب حديثة النشأة، خلت من الرؤية والسياسات لأجل صياغة عملية الانتقال السياسي. وهذا ما يفسر حالة الاهتزاز التي ظهرت مبكرة من بداية حراك الشباب نحو الديمقراطية.

وإزاء هذه التقلبات والقيود على الديمقراطية في الشرق الأوسط، تبدو التحديات كبيرةً أمام كل من الحركات السياسية والحكومات لبناء سياسات الانتقال نحو الديمقراطية والتحديث، خصوصا في جانبي التحديات البنيوية والفكرية. وهنا، تبدو أهمية تقييم السياسات التي شكلت المسار الانتقالي خطوة ضرورية لتكوين النظم المستقرة في الشرق الأوسط.

5DF040BC-1DB4-4A19-BAE0-BB5A6E4C1C83
خيري عمر

استاذ العلوم السياسية في جامعة صقريا، حصل على الدكتوراة والماجستير في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، وعمل باحثاً في عدة مراكز بحثية. ونشر مقالات وبحوثاً عديدة عن السياسية في أفريقيا ومصر والشرق الأوسط .