الحاجة إلى برج إيفل عربي

الحاجة إلى برج إيفل عربي

27 أكتوبر 2014

برج إيفل في باريس من بعيد ... (أغسطس/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

لم يلق برج إيفل استحسان رائد القصة القصيرة، غي دي موباسان. فباريس، كما عرفها، كانت أجمل من دون ذلك الهيكل الضخم من القضبان الحديدية. مع ذلك، اعتاد تناول طعامه بانتظام في أحد مطاعم البرج، وحين طُلب منه أن يفسر هذا التناقض، أجاب أن برج إيفل هو المكان الوحيد الذي يمكنك أن تنظر منه إلى باريس، من دون أن ترى برج إيفل.

في معظم مدننا العربية اليوم، ما أن تعتلي برجاً في مركز المدينة، وما أن تجهد بصرك، قليلاً، لتجول به نحو أطراف المدينة وضواحيها، حتى تلحظ مدن الصفيح والأحياء العشوائية ومكبات النفايات، وربما البحيرات التي قد شكلتها نهايات شبكات الصرف الصحي...إلخ.

وإن اخترت الترجل، لتسير في تلك الشوارع التي لا يسكنها طبعاً أحد المسؤولين العرب، ولا تعج بالسفارات، لاسيما الغربية منها، ولا بمكاتب المنظمات الدولية، ستلقى الفوضى المرورية والأرصفة المشغولة بالسيارات و"البسطات" والباعة المتجولين، مشاة أو على "حناطيرهم" و "طنابرهم"، منتشرين في عرض الشوارع وطولها، حتى أنك لن تسلم من هدير الطرب الشعبي، من ذاك النوع الرديء الذي لا يرقى حتى إلى مستوى الفولكلور. نعم، في المدينة العربية، يحدث أن تغص المدنية بكل ما هو غير مدني.

بعد الاستقلال، ورثت المدينة العربية البنى التحية والخدمية المتطورة نسبياً عن الحقبة الكولونيالية، لاسيما في البلدان التي وقعت تحت الانتداب البريطاني، والذي كان ميالاً إلى الإدارة المدنية، لتصريف شؤون المستعمرات، بدل الإدارة العسكرية المباشرة. مصانع ومدارس ومشاف وموانئ ومطارات وشبكات طرق وأنظمة ري وأبنية مختلفة وسكك حديدية، وغيرها من البنى التي استندت إليها الدولة العربية الناشئة، والتي سهلت مباشرة عملية البناء والتنمية. وقد اعتمدت تلك الدولة على المركزية الإدارية، قبل أن تبدأ تجربتها مع اللامركزية في تنمية المجتمعات المحلية.

تتمتع الجماعة المحلية، من حيث هي مجموعة من السكان، يتشاركون مساحة جغرافية معينة من خريطة الدولة، بخصوصية في عاداتها وتقاليدها، والمستمدة من خصوصيتها الاجتماعية، الاقتصادية والثقافية. وحتى تتحول هذه الجماعة من مجرد كيان ديموغرافي إلى مؤسسة دستورية وفاعل رئيس في التنمية المحلية، وكأحد روافد التنمية على مستوى الدولة، تلجأ الأجهزة المركزية في النظم الحديثة إلى آليات وأطر دستورية، تمكنها من تلبية حاجات الأفراد محلياً، عبر إشراكهم في تسيير شؤون مجتمعاتهم بأنفسهم، على مبدأ "أهل مكة أدرى بشعابها"، من خلال ما عرف بـ"الإدارة المحلية"، إطاراً دستورياً تؤول فيه قيادة الجماعة إلى مجلس جماعي، يجمع بين عناصر منتخبة محلياً، وأخرى تمثل أجهزة الدولة الإدارية. 

ولما كانت تلك اللامركزية الإدارية، كأسلوب في سياسة التنمية المجتمعية، نتيجة للتجربة الديمقراطية نفسها، كان من الطبيعي أن تمنى تجربة الإدارة المحلية في العالم العربي بالفشل الذريع، نتيجة التعارض الحاصل بين النظم العربية والديمقراطية، بل تحولت الإدارة المحلية إلى أداة لإخضاع مجتمعات القرى والأرياف. العشائرية والجهوية واستغلال النفوذ والمحسوبيات وسيطرتها على المجلس الجماعي وتدخل الأجهزة المركزية البيروقراطية وتواطؤها مع ذوي المصالح والامتيازات، وتحول الانتخابات المحلية والبلدية إلى تمثيلية بسيناريو معد سلفاً ... وغيرها، أدى ذلك كله إلى حضور الدولة، أمنياً وسياسياً وغيابها تنموياً، وكان على الريف العربي الذي تخلص للتو من الإقطاع الكلاسيكي أن يخضع لإقطاعٍ جديد، تمثل بالدولة وشبكات المصالح المتحالفة معها. 

كان الريف العربي محوراً للعجلة الاقتصادية، منذ مرحلة ما بعد الاستقلال، لكنها كانت تدور، وهو يقف ساكناً في مركزها، لا يحصد إلا مزيداً من التهميش الحضاري، الإداري والتنموي. وبعد أن حلت السياسات التدبيرية مكان السياسات التنموية، بقي الريف خاضعاً للاستثمار الاقتصادي، لصالح تنمية الثروات الفردية وتراكمها في المدينة، وللاستثمار السياسي في لعبة الدوائر الانتخابية، حيث الزيارات الاستعراضية لمرشحي الانتخابات باتت حدثاً روتينياً مع كل دورة انتخابية جديدة.

القروي وابن الريف، اللذان تحليا ببعض الطموح وسحرتهما عجائب المدينة، نزحا إليها تاركين وراءهما رتابة العيش وقسوة الحياة. عائلات وجماعات نزحت لتسكن أطراف المدينة، بعد إذ لم يرحمهم تجار العقارات في وسطها، أو لتبني لها ما يشبه البيوت في تلك المناطق التي تعرف بالمخالفات أو العشوائيات، لينضم إليهم، أيضاً، من سكان المدن أولئك الذين سحقهم غياب العدالة التوزيعية. لكن، وباستثناء بعضهم، لم تتيسر حال كثيرين.

أحياء كاملة سميت باسم العائلة المهيمنة على الحي أو باسم الجماعة المحلية، العرقية أو الدينية أو الجغرافية. هؤلاء حملوا معهم عاداتهم وتقاليدهم إلى المدينة، بل ربما ازداد تعلقهم بها، طرداً مع عجزهم عن الاندماج في حياة المدينة، في ظل تهميشهم الاقتصادي، وبالتالي، الاجتماعي، المستمرين، فلجأ لا شعورهم الجمعي لتعريف ذواتهم سلباً، ولم يحل ذلك دون حالة من الاغتراب وانعدام التوازن النفسي، استطاع جبرا إبراهيم جبرا مقاربتها روائياً في "صيادون في شارع ضيق" و"السفينة"، حيث المدينة التي تحتلها الذهنية الريفية، وتزحف نحوها البداوة، وأولئك الشبان العرب ذوي الأصول الريفية والبدوية الذين يكافحون في المدنية الحديثة، بحثاً عن حياة أفضل، من دون أن يستطيعوا خلع رداء عشائريتهم وريفيتهم، وما تحتهما من أعراف وتقاليد، وحيث الانتحار أحد النتائج الممكنة لانعدام التوازن النفسي وصعوبات التكيف.

تحلى أولئك الوافدين إلى المدينة بخصال إيجابية كثيرة، كالبساطة والطيبة والكرم و"الجدعنة"، وغيرها من خصال اختصرتها عبارة "ابن البلد". لكن، مع تفشي البطالة والتفكك الأسري، وغياب الوعي، نتيجة انعدام التربية المدنية وتخلف التعليم وغياب التعليم الموازي، أفرزت حالة انعدام التوازن النفسي أنماطاً شتى من السلوكات المضطربة، كالتحرش الجنسي وتعاطي المخدرات، وارتفعت معدلات جرائم الشرف وأنواع الجريمة الأخرى كالسرقة والبلطجة، وحتى البصاق في قارعة الطريق.

ولم تقتصر حالة انعدام التوازن تلك على الأطراف الفقيرة في المدينة، فمشاهد أعمدة النور المكسورة، أو صنابير مياه الحدائق المعطوبة والمسروقة، وتعلق الصغار بالشاحنات المكشوفة، والعبث بحصالات الهاتف، وإشغال الأرصفة بتجمعات السمر في ليالي الصيف، والفوضى في وسائل النقل والتدافع أمام المخابز ..إلخ، باتت كلها سلوكاً يتعاطاه سكان المدينة الأصلاء. هكذا، تعود الهوة الحضارية لتضيق بين الريف والمدينة، وكأن الريف المستلب يعود لينتقم من المدينة.
وصف، مرة، فيكتور روبنسون المدينة العربية في عصر الاقتصاد الإسلامي القائم على الفتوحات، فكتب: "كانت أوروبا في ظلام حالك، في حين كانت قرطبة تضيئها المصابيح، وكانت أوروبا غارقة في الوحل، في حين كانت قرطبة مرصوفة الشوارع".  فهل نتأسف على زمن الفتوحات؟

لا يمكن أن نلوم موباسان على موقفه الجمالي من أحد أبرز عجائب المدنية الحديثة ورموزها، فلكل منا ذائقته الفنية والجمالية، طالما أنه لم يتحفظ على أن يعيش حياة مدنية. لكن، نحن الذين لم نشهد بعد ريفاً يتمدن، بل مدينة تُريّف كل يوم، ما أحوجنا إلى برج إيفل عربي.

دلالات

حسام أبو حامد
حسام أبو حامد
كاتب وصحافي فلسطيني. من فريق موقع العربي الجديد قسم السياسة.