قتل عمد مع سبق الإصرار

قتل عمد مع سبق الإصرار

22 أكتوبر 2014

دمار في الرمادي بعد هجمات ميليشيات طائفية (24 يونيو/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

أن يقف إنسان شرير متربصاً في انتظار ضحيته، بعد أن عقد العزم وبيّت النية، على سلبه حياته، يكون قد هيأ نفسه، لفعل جريمة القتل العمد، مع سبق الإصرار والترصد. سجلت منظمة العفو الدولية وقائع جرم كهذا في نقطة تفتيش في بغداد، إذ سمع مندوبوها أحد عناصر ميليشيا "عصائب الحق"، إحدى ميليشيات ما يسمى (الحشد الشعبي) يقول: "إذا أمسكنا بأحد هؤلاء الكلاب (السنة) قادماً من تكريت، فسوف نقوم بإعدامه، فجميع سكان هذه المنطقة يعملون مع داعش، ويأتون إلى بغداد، لارتكاب جرائم إرهابية، ما يحتم علينا إيقافهم".

انتبهت دوناتيلا روفيرا كبيرة مستشاري المنظمة إلى ذلك، وعلقت الجرس في مواجهة تلك الممارسات، وكتبت تدين حكومة بغداد بصراحة بأنها "تجيز ارتكاب جرائم حرب، وتؤجج دوامة العنف الطائفي الخطرة التي تعمل على تمزيق أوصال البلاد"، وأضافت "إن ميليشيات شيعية، مدعومة ومسلحة من الحكومة خطفت وقتلت عشرات المدنيين السنة، خلال الأشهر الأخيرة في ظل إفلات تام من العقاب"!

ما تقوله المنظمة يفتح ثغرة في جدار الحقيقة، وسط كومة من الصور والمشاهد والروايات الناقصة، أو المجتزأة، أو المنتقاة التي يجترها الإعلام الرسمي والفضائيات المستأجرة، بحجة أن الحرب على داعش تفرض الصمت عمّا يجري، هي، بذلك، تعيد العراقيين إلى عصر أن "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، وهو ما يقوله المدافعون عما يسمونه بـ (الحشد الشعبي) الذي يضم ميليشيات طائفية عديدة، موغلة في دماء العراقيين، كما داعش. إنها حرب داخل حرب، كيف، إذن، يستطيع المواطن العراقي السني أن يبرئ نفسه من تهمة العمل مع داعش؟ وقياساً على ذلك كيف يمكن للشيعي أن يبرئ نفسه من تهمة مساندة "عصائب الحق"، أو "جيش المختار" أو .. أو ..؟ وقياساً على ذلك أيضاً، كيف يمكن للمسيحي أو الأيزيدي أو المندائي أو الشبكي أو.. أو.. أن يأمن على نفسه وماله وعمله؟ والكردي، أيضاً، هل يشعر بحقه في العيش في جنوب البلاد، وهل يستطيع العربي أن يصرح بعروبته علناً، من دون أن يطاله "الاجتثاث"؟

أسئلة من هذا النوع تتردد في كل مكان من بلاد ما بين النهرين، التي ضمت، قبل مائة عام، مسلمين ومسيحيين ويهوداً، ومللاً ونحلاً أخرى، كانوا جميعاً يعيشون في وئام وسلام،  و"كل منهم له أعياده وتقاليده الدينية التي يحترمها الآخر، ويشارك فيها"، بحسب ما ثبتته وثيقة لوزارة الحرب الأميركية، تضمت توصياتها لجنودها الذين التحقوا في حملة العراق في الحرب العالمية الأولى، أما، اليوم، فقد تغيرت أقدار الناس، وبدأت حكومة بغداد التي فرضها توافق أميركي- إيراني محسوب، تشرعن قسمة البلاد، بعدما ضمنت تصنيف العباد، وقسمتهم طوائف، تبغي إحداها على الأخرى، ولا نجد من يفيء إلى أمر الله!

ومع صعود نجم "داعش"، كان هناك من يريد أن يستثمر اللحظة، لكي يجعلها فاصلة تاريخية، تغرق العراقيين في حمى الصراع الطائفي، حتى يظهروا هم كمنقذين، وقد حضر الأميركيون، كما حضر الإيرانيون، وتواطأوا على اقتناص الفرصة، واقتسام الغنيمة، كل يريد إنقاذ رأسه، ورؤوس تابعيه المحليين، ووضعوا لنا زمناً نكون فيه أسرى كلمتهم، وليس ثمة مجال لرفضنا، أو قبولنا، قالوا إنها ثلاث سنوات فقط، ثم أضافوا عشراً وعشرين، حتى قيل لنا إن انتظارنا سيطول إلى ثلاثين، وقيل خمسين، وثمة خبثاء يروجون أن النهاية لا تبدو عاجلة، خصوصاً وأن النفط لن ينضب في المدى المنظور!

نحن في أم المحن، إذن، قال باحث إن العراقيين لم يشهدوا محنة مثلها، منذ خمسة آلاف عام، فقد اشتدت الأزمة وكبرت، وانسد الأفق، وانعدمت الخيارات، حتى أوشك العراق أن يدخل غرفة الإنعاش، لا فائدة من سكب العبرات. المطلوب هو اجتراح حلٍ، قد يكون مؤلماً وقاسيا لدى بعضهم، لكنه يفتح كوة صغيرة، تعين على تلمس الخطو في طريق طويل ومعتم، وخلاصة الحل الذي نطلبه من الحاكم أن يكون حكيماً، وأن لا يسكت على باطل "الميليشيات" المغلف بالحق، "كي لا يتوهم أهل الباطل أنهم على حق"!

وقد طال انتظارنا هذا الحل، حتى كاد أن يكون انتظارنا ضرباً من العبث!

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"