على بعد ساعة من هونغ كونغ

على بعد ساعة من هونغ كونغ

13 أكتوبر 2014

حشد لمحتجين في هونغ كونغ (10 أكتوبر/2014)

+ الخط -

"دولة واحدة، نظامان مختلفان" هو المبدأ الذي أرساه الإعلان الصيني البريطاني المشترك، في 19 ديسمبر/كانون الأول 1984، والذي رسم مستقبل هونغ كونغ  السياسي والاقتصادي، ونص على الحفاظ على النظام الرأسمالي، في هونغ كونغ، منطقة إدارية خاصة، تتمتع بما يشبه الحكم الذاتي، مدة لا تقل عن 50 عاماً. وقد حدد دستور 1997 علاقتها بالصين ونظامها السياسي التعددي، المعقد والفريد من نوعه.

في أغسطس/آب الماضي، أعلنت اللجنة الدائمة للجمعية الوطنية الشعبية الصينية (البرلمان) أن الرئيس التنفيذي لهونغ كونغ سينتخب بالاقتراع المباشر، ابتداءً من عام 2017، باستثناء اثنين أو ثلاثة من المرشحين، ستختارهم لجنة، الأمر الذي اعتبره أنصار الديمقراطية انتهاكاً من بكين لتعهداتٍ، قطعتها في عام 1997، ما أثار موجة من الاحتجاجات الجماهيرية.

وكان الجدل حول الإصلاحات الدستورية في هونغ كونغ قد احتدم، منذ عام 2002، مروراً بالعام 2004، قبل أن يتمكن البرلمان، لاحقاً، من إقرار تعديلات دستورية، تقضي بتوسعة اللجنة الانتخابية التي تنتخب رئيس البلاد من 800 إلى 1200 عضو، وتوسيع المجلس التشريعي من 60 إلى 70 مقعداً، يُنتخب أربعون منهم انتخاباً مباشراً، وتختار البقية مجموعات صغيرة من الناخبين، يمثلون اتجاهات مهنية واقتصادية مختلفة. وكانت تلك الصيغة الدستورية التي جرت بموجبها الانتخابات التشريعية في 2012، وحصدت فيها أحزاب المعسكر الديمقراطي 27 مقعداً، لتحوز الثلث المعطل. وترافقت تلك الانتخابات مع مسيرات احتجاجية، إذ بقي الجدل قائماً حول انتخاب الرئيس التنفيذي الذي تختاره لجنة من كبار رجال الأعمال المؤيدين لبكين.

يتعاظم المناخ المعادي لبكين في هونغ كونغ، إذ يشعر سكان كثيرون (حوالي 7 ملايين نسمة، معظمهم صينيون) بأن أبناء جلدتهم في بكين يفكرون على نحو مختلف عنهم. واللافت أن الاحتجاجات التي عمت شوارع المدينة كان جلّها من الطلبة والشبان الناشطين الذين استثمروا وسائل التواصل الاجتماعي، فاحتلوا مركز المدينة المالي، وعطلوا الحياة الاقتصادية، وأغلقوا المدارس، وصولاً إلى حصار مقر الرئاسة، والمطالبة بتنحي الرئيس، في مشهد يذكرنا بـ"الربيع العربي". 

وأيدت الولايات المتحدة الأميركية "ثورة المظلة" في هونغ كونغ، لكن رسالة الصين كانت واضحة: "هونغ كونغ شأن صيني داخلي"، فدعمت قمع المتظاهرين، وسارعت إلى فرض رقابة صارمة على وسائل الإعلام: حظر وسائل التواصل الاجتماعي، حجب مواقع إلكترونية عديدة لصحف ووسائل إعلام غربية، التشويش على محطات فضائية، وإخضاع الرسائل النصية لمراقبة محكمة. كمذلك شن إعلامها الرسمي حملة شرسة على تلك الاحتجاجات، فوصفتها وكالة "شينخوا" الرسمية بـ"المظاهرات البلطجية"، ورأت فيها صحيفة الشعب، الناطقة بلسان اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني "تراجعاً للديمقراطية".

بعد حقبة ماوتسي تونغ، شهدت الصين احتجاجات عنيفة، لاسيما في عامي 1959 و1989، وتم قمعها بحزم، كما استطاعت السلطات الصينية السيطرة على الاحتجاجات الواسعة التي تفجرت بعد تسريح الحكومة الصينية أعداداً ضخمة من العاملين في مؤسسات حكومية في عام 2000، وتكررت الاحتجاجات في السنوات اللاحقة، لتصبح أحداثاً جماهيرية شبه يومية، وعلى الرغم من أنه ليس هناك إحصاءات دقيقة لعدد الاحتجاجات سنوياً من جهات محايدة، فإن باحثين في جامعة  نانكاي قدروها في عام 2009 بـ90 ألف حدث احتجاجي. لكن، هذه المرة، تشكل "ثورة المظلة" تحدياً مختلفاً للحكومة المركزية في بكين.

لم تستهدف الاحتجاجات في العقدين الأخيرين، على الرغم من كثافتها، النظام السياسي القائم في الصين، بل مسؤولين محليين وقرارات إدارية وسياسات للسلطات المحلية. فوفق بحثٍ أجرته الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية، كانت أبرز العوامل المحركة لهذه الاحتجاجات: الاستيلاء على أراض من مسؤولين محليين، قضايا العمل، التلوث، التوترات العرقية، وغيرها، وانخرط فيها عمال المناجم والمعلمون وذوو الدخل المحدود وشرائح أخرى.

وقبل انشغال وسائل الإعلام بأحداث هونغ كونغ، وعلى بعد ساعة من هذه المدينة، وتحديداً في شانتو من مقاطعة غوانغدونغ الجنوبية المحاذية، هاجم سكان، في أغسطس/آب الماضي، مقرات حكومية، احتجاجاً على خطة وضعتها السلطات المحلية لتوسيع مكب للنفايات. اعتقلت الشرطة 26 شخصاً من هؤلاء المتضررين المحتجين، وصادرت حوالي 200 قطعة سلاح، بما فيها سكاكين وبلطات. وفي ماومينغ من المقاطعة نفسها، تظاهر في أبريل/نيسان الماضي ألف شخص، احتجاجاً على خطة لإنشاء مصنع للباراكسيلين، وهي مادة كيماوية، تستخدم في صنع البوليستر، يمكن لكميات كبيرة منها أن تؤدي إلى تلف في الأعصاب.

وحسب "نشرة العمل الصينية"، فإن 40% من الاضطرابات التي وقعت بين عامي 2011 و2013، قام بها عمال المصانع، وإن 60% منها كانت ضمن مقاطعة غوانغدونغ. ولذا، تخشى الصين انتقال عدوى الديمقراطية إلى المقاطعات الصينية المحاذية، وأن تشعل هونغ كونغ فتيل اضطرابات أكثر احتداماً في المقاطعات الصينية، انطلاقاً من غوانغدونغ، تستهدف النظام السياسي الصيني، خصوصاً أنها كانت دائماً مثالاً يحتذى لمن تصفهم الصين بأصحاب "النزعات الانفصالية". ففي عام 2005، رفض الدالاي لاما الرابع عشر اتهام السلطات الصينية له بالنزعة الانفصالية، ورأى أن الدستور الصيني يوافق على مبدأ "بلد واحد، نظامان مختلفان"، وأنه من الضروري أن توافق الصين على منح التيبت حكماً ذاتياً على غرار هونغ كونغ. وتكرر الحال نفسه مع أقلية الأويغور التي أعلنت تأليف حكومة تركستان الشرقية في المنفى في 2004، وقد حكمت محكمة صينية، في سبتمبر/أيلول الماضي، على أحد زعمائها (إلهام توهتي) بالسجن مدى الحياة.

ومن المرشح أن تنحسر المعركة من أجل الديمقراطية في هونغ كونغ إلى داخل جدران البرلمان، بعد تململ سكان المدينة، خصوصاً من الجيل الأكبر سناً الذين اعتادوا حياة مستقرة، ويخشون تراجع المكانة العالمية لمدينتهم. وقد وجه أهال ومعلمون عديدون نداءات للطلبة والأبناء المندفعين للتراجع عما يقومون به، ويبدو أن الصين قد تستطيع مجدداً بفضل ثقلها العسكري والاقتصادي، وسيطرتها على المجلس التنفيذي، أن تضبط الأوضاع هناك، لكنها ستبقى مرشحة للانفجار، لاسيما مع حلول عام 2017.

على بعد ساعة من هونغ كونغ، هناك مظلة أو مظلات كامنة، على الصين التعامل معها من منظور طويل الأمد، حيث لن يستمر الاقتصاد الصيني المتنامي، وسياسة القبضة الحديدية، في تقديم ضمانات إضافية للاستقرار السياسي، ولسيطرة الحكومة المركزية. وهذا يتطلب تغيراً جذرياً في العقيدة السياسية الصينية المسيطرة حتى الآن، والتي لا زالت تنظر لأي بروسترويكا صينية على أنها بداية الانهيار للإمبراطورية الشيوعية.

حسام أبو حامد
حسام أبو حامد
كاتب وصحافي فلسطيني. من فريق موقع العربي الجديد قسم السياسة.