جوع الذل السوري

جوع الذل السوري

10 أكتوبر 2014

لاجئون سوريون قرب الحدود التركية السورية (5أكتوبر/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

من تنويعات الذل للشعب السوري، إضافة إلى تشريده وإجباره على النزوح والعيش في خيم أو في العراء، قرار تجويعه. جاءت، الآن، مرحلة تجويع الشعب السوري، بحجة عدم كفاية المال الذي ادعت الدول المانحة أنها ستهبه لملايين السوريين النازحين والمشردين. أول ما تبادر إلى ذهني، عند سماع هذا الخبر الكارثي المأساوي، أن مسؤولين سوريين رفيعي المستوى، اتخذوا قراراً بأن يتم إكساء المشفى الوطني في اللاذقية بأجود أنواع الرخام، أظن ذلك كان عام 1995. ثم تدفقت ألواح لا نهائية من الرخام إلى المشفى، وعمل مئات العمال في إكساء كل جدار خارجي وداخلي بالرخام. في حينه، كان المشفى الوطني يعاني شحاً شديداً في الأدوية، وكان مرضى يموتون بسبب عدم توفر أدوية إسعافية وضرورية، وحين تجرأ بعض العاملين في المشفى، من أطباء وموظفين، وسألوا المسؤولين الرخاميين: لماذا تصرفون المليارات على إكساء جدران المشفى بالرخام، بدل أن تشتروا أدوية وأجهزة طبية حديثة للمشفى؟ كان الجواب الوحيد: ميزانية المشفى غير ميزانية الدواء. وهكذا تحول المشفى الوطني في اللاذقية إلى المثل الشعبي "من الخارج رخام ومن الداخل سخام".

أجدني أستنهض تلك الذكرى رغماً عني، وأنا أستمع للمتحدثين عن الأسباب التي ستؤدي إلى إنقاص المساعدات الغذائية لملايين السوريين إلى أكثر من الثلث، بحجج قد تبدو منطقية، لكني، وملايين مثلي، لا نصدقها، لماذا المليارات متوفرة دوماً للتسليح؟ لماذا المليارات متوفرة، ولا يوجد نقص ولا عجز في تأمين الأسلحة المتطورة الفتاكة، بل إن صفة أسلحة متطورة هو قمة الخزي والعار. لماذا لا تتوفر نتفة من ضمير، لشراء غذاء للشعب السوري، بدل شراء صاروخ أو أسلحة فتاكة؟ هل ميزانية الصواريخ غير ميزانية الطعام؟ هل أصبح العلم لا أخلاقياً ومُبرمجاً إلى درجة أنه يستحيل المقايضة بين ميزانيتين، كما استحالت المقايضة بين ميزانية الرخام في المشفى الوطني وميزانية الدواء.

ليمت آلاف السوريين من نقص الدواء أو الغذاء فمن يبالي؟ بل، على الأغلب، هنالك من يبالي، لأن السوري تحول إلى أداة للتفاوض من تحت الطاولات، وربما المطلوب، في هذه المرحلة، تجويعه جوع الذل، لأن الجوع الحقيقي ليس جوع المعدة فقط، بل جوع الذل. أي عار وألم تحسه، وأنت تتفرج على طابور من مئات النازحين والنازحات، يقفون، ساعاتٍ طويلة، تحت الشمس، أو في الهواء والغبار، متجاهلين أنين أطفالهم وبكائهم، من أجل الحصول على زجاجة زيت أو كيس حليب أو رز؟ في أي شارع في اللاذقية، يمكنك أن ترى هذا المنظر، ويغوص قلبك داخل أضلاعك خزياً وألماً، وأنت تتساءل أية ذاكرة ستتشكل لهؤلاء الأطفال النازحين، وهم ينتظرون مع أهلهم ساعات للحصول على لقمة تسد جوع الذل؟

لقد أجبر الشعب السوري أن يصل إلى مرحلة اليأس، ولا عتب على اليائس إن صدرت عنه تصرفات ما كان يتوقعها ويتمناها. التجويع قمة التحقير للإنسان، كيف يمكن أن نتفرج على ملايين الأطفال السوريين الذين يسكنون الخيم أو العراء، والمحرومين من المدرسة يجوعون أيضاً. ماذا يتوقع علم نفس الطفل من سلوكٍ لطفل يعض الجوع أحشاءه؟ وبعد أية متانة نفسية أسطورية، علينا أن نتمتع بها، حين نسمع أخبار الظهيرة، تخبرنا عن تفجير انتحاري في شارع عكرمة في حمص، راح ضحيته أكثر من أربعين إنساناً، معظمهم من الأطفال الخارجين من المدرسة، ونرى أشلاءهم وأقلامهم الملونة كأحلامهم مبعثرة في الشارع وعلى الرصيف، وبين أخبار المساء، في اليوم نفسه، تخبرنا أن المساعدات الغذائية للنازحين السوريين انخفضت إلى أكثر من الثلث؟ هل المطلوب بعد مرحلة التجويع، أو قرار التجويع، أن يُتخذ قرارٌ بأن يفقد المواطن السوري عقله، لأنه لم يعد لديه القدرة على تحمل مزيد من إجرام العالم، ولأن الظروف تزداد مأساوية، شهراً بعد شهر، وسنة بعد سنة، ولأن آلاف الأطفال والشبان ماتوا في قوارب الموت، محاولين أن ينجوا من وطن الموت سورية.

ليس مفهوماً قرار إنقاص المساعدات الغذائية للشعب السوري وتجويعه إلا كقرار سياسي. ولا يُصدّق ما يدعونه من عجز في الميزانية، وهؤلاء الذين يتحكمون بمصير ملايين السوريين قلوبهم من رخام، تماماً، كالمسؤولين الرخاميين في المشفى الوطني في اللاذقية الذين قالوا إن ميزانية الرخام غير ميزانية الدواء. وما بين العبارتين مات مرضى كثيرون. وأختم بعبارة كتبها أحدهم، على فيسبوك "لم يبق شيء في وطننا سورية إلا وأصبح ينتظر الموت".

831AB4A8-7164-4B0F-9374-6D4D6D79B9EE
هيفاء بيطار

كاتبة وأديبة سورية